ما بال هؤلاء القوم يسرفون سرفًا عظيمًا في الحديث عن الرافعي الأديب والمفكر والشاعر والكاتب، ويتناسون ميدانًا عظيمًا كان للرجل فيه حضور كبير، وعلامات بارزة، وآيات تشهد ببلوغه فيه، وعلو رتبته؟!
ويبقى السؤال العجيب.. أي ميدان هذا الذي برع فيه الرافعي غير ميدان الأدب والشعر والكتابة؟ والذي لم يشر إليه أحد من الكتاب، أو يُلمح إليه دارس لحياته، أو راصد لأيامه؟
والحق أن قراءتنا لسيرة الإمام الرافعي، جعلتنا نتنبه ونكتشف شيئًا عظيمًا مجهولا في تاريخ الرجل وحياته، ربما يغير نعتنا له من الأديب الرافعي، إلى نعت آخر، فلم يكن الرجل مجرد أديب أو شاعر أو مفكر أو كاتب أو قاص، وإنما كان وليا من أولياء الله المقربين، يدل على هذا بعض كرامات كشف عنها المقربون له، وسجلها لها بعض تلامذته.
ولكن كيف لنا أساسا أن نغفل أن يكون مثل الرافعي من أولياء الله الصالحين، وهو السيف البتار الذي نافح عن الدين، ورد المارقين والملحدين، وأخرس بروعة بيانه ألسنة الضالين المشككين.
رجل كهذا.. سخر علمه وأدبه وبيانه في خدمة الإسلام، ورفع رايته الخفاقة، ألا يكون وليًا من أولياء الله الصالحين؟ ولعل واحدًا فقط من كبار أئمة الدين، هو الذي تنبه لهذه الخصيصة، ولمح فيه وحده هذه المنحة، وهو الإمام (محمد عبده) رحمه الله، حينما كتب له يومًا وقال: "ولدنا الأديب الفاضل مصطفى أفندي صادق الرافعي، زاده الله أدباً.. لله ما أثمر أدبك، ولله ما ضَمِن لي قلبُكَ، لا أقارضك ثناء بثناء؛ فليس ذلك شأن الآباء مع الأبناء، ولكني أَعُدك من خُلَّص الأولياء، وأُقدم صفك على صف الأقرباء.. وأسأل اللهَ أن يجعل للحق من لسانك سيفاً يمحق الباطل، وأن يُقيمَك في الأواخر مقامَ حَسَّانٍ في الأوائل، و السلام "
ذكر عنه تلميذه العريان قوله: "إنني كثيرًا ما كنت أسمعه يقول: حدثتني نفسي أو ألقي إلي.. هتف بي هاتف، وكان يعني ما يقول على حقيقته، فقد جلست إليه مرة وتحدثنا وعلى حين غفلة سكت، ثم قال: كيف صديقنا مخلوف؟ قلت لم أره من زمان! فقال: إنه قادم الساعة لقد ألقي إليّ.. أحسبه الآن يصعد في السلم، فما كاد يتم حتى دق الجرس، وكان الأستاذ حسنين مخلوف هو القادم، وسألت الأستاذ مخلوفًا: أكان على موعد مسبق مع الرافعي؟ فنفى لي كل ظنة!
وسألني الرافعي مرة: ماذا تعرف عن صديقنا (م) فقلت لا جديد من أخباره، فقال لي: يهتف بي هاتف أنه في شر! وفي صباح اليوم التالي، كان نبأ شروعه في الانتحار منشورًا في الصحف! وفي الرسائل التي تبادلاها بعد هذه الحادثة، ما يُبعد الظن بأن الرافعي كان يعلم شيئًا من حاله!
وكان بينه وربين رجل قضية فغاظه، وجاءني الرافعي يومًا محنقًا وهو يقول: سينتقم الله منه! سينتقم الله منه! قلبي يحدثني بأن القصاص قريب! وفي الغد جاءنا نعي الرجل، وكنت مع الرافعي وقتئذ، فتندت عيناه بالدمع، وتناول سبحته، وأخذ يتمتم في صوت خافت، وشفته تختلج من شدة الانفعال!
ويبدو أن هذه الروحانية الصافية قد ورثها عن أبيه، الذي ظهرت له بعض كان يقصها ومنها أنه كان مسافرًا يومًا إلى بلد ما وكان عليه صلاة فافترش المصلى على رصيف المحطة، وبينما هو كذلك حتى جاء القطار، قال الرافعي: وكان أبي حريصًا على ميعاد هذه السفرة، يخشى لو تأخر عن موعدها، وما كان بين موعد قدوم القطار وسفره، ما يتسع لصلاة الشيخ؛ ولكن الشيخ استمر في صلاته بخشوع واطمئنان، وما تحرك القطار إلا بعد أن فرغ الشيخ من صلاته واطمأن في كرسيه وحيا مودعيه، وكان سبب تأخير القطار شيئا غير مألوف يتصل بشأن من شئون المحطة.!
هذه بعض ما ذكر عن الرافعي من كرامات وعلامات تدل على روحانيته الصادقة وقربه من ربه سبحانه، وتكشف بجلاء عن هذا الجانب الكبير الخفي من حياة الرجل، والذي يؤهلنا بكل ثقة ويقين أن نقول عنه: ولي الله الرافعي.
مزيد من التفاصيل