تعالت أصوات الصراخ فجأة في منزل عائلة كميلالفلسطينية في بلدة قباطية جنوب مدينة جنين بالضفة المحتلة، فلم تكن تتوقع أن ينتهييومها بفاجعة أفقدتها نجلها الشاب محمد شهيدا وهو يبحث عن لقمة العيش داخل الأراضيالمحتلة عام 1948.
ولم يكن في تفكير العائلة كذلك أن محمدا (ابنالثالثة والعشرين من عمره) لن يكمل بعد الآن بناء منزله المتواضع؛ فشرطي إسرائيلي واحدوضع حدا لأحلامه بالسكن فيه والزواج كأي شاب آخر، بل أحدث جرحا عميقا لن يندمل في قلبوالديه وكل من عرفه.
يوسف كميل، عم الشهيد، يقول لـ"عربي21"إن "محمدا توجه كالعادة للعمل داخل الأراضي المحتلة دون تصريح؛ فالاحتلال رفضإصداره له بحجة المنع الأمني؛ ما اضطره لسلوك طرق أخرى. وفي الثالث والعشرين من أبريل/ نيسان، تلقت العائلة اتصالا هاتفيا من أحد الشبان الذين كانوا معه، أخبرها فيه أن محمد فارقالحياة".
وسط هول الصدمة مما سمع، قام ابن عم الشهيد بالاتصالعلى هاتفه المحمول، ليردّ ضابط شرطة إسرائيلي، ويخبره أن محمد توفي نتيجة سكتة قلبية،ولكن السجل الأسود للاحتلال في ملاحقة العمال الفلسطينيين جعل العائلة تبحث أكثر فيأسباب الوفاة.
ويوضح عم الشهيد أن الشاب الذي كان رفقته أكدللعائلة لاحقا أن عناصر من شرطة الاحتلال طاردوهما حين كانا بالقرب من جبال عرابةالبطوف في الداخل، وخلال ذلك تعثر محمد وسقط أرضا، فهاجمه شرطي بالضرب والركل على صدرهوأجزاء أخرى من جسده حتى فارق الحياة، في حين تم اعتقال الشاب الآخر لعدة أيام.
ويضيف: "محمد قبل استشهاده كان يشهق ألما، ويكرر كلمة (صدري.. صدري)، دون أن يستجيب الشرطي الذي استمر في الضرب، حتى توقف ابن أخيعن الحراك، وتحول إلى جثة هامدة، بعدها تم نقله إلى المستشفى، لتؤكد وفاته، وليبحث الاحتلالعن ذريعة جديدة في إعدام شاب أعزل".
عائلة كميل تسعى لرفع قضية ضد الاحتلال بعد هذهالجريمة، لكنها تعلم جيدا أن كل القضاء الإسرائيلي لن ينصف حق ابنها الذي دفعته ظروفمختلفة لدخول الأراضي المحتلة والبحث عن عمل، بينما ترى أن رفع القضية هو دافع معنوي، وأقل ما يمكن؛ لفضح الاحتلال وتعريته في هذا الملف المؤلم لكل عامل فلسطيني.
"أحلاهما مرّ"
البطالة المتفشّية في الضفة المحتلة بسبب سياساتالاحتلال الاقتصادية المقيّدة للمشاريع والنهضة التجارية؛ وقلة الأجور مقابل ساعاتالعمل، واستغلال العمال من أصحاب العمل، كلها أسباب تجبرهم على الهرب من هذا الواقعصوب آخر ليس أفضل بكثير، وهو العمل داخل الأراضي المحتلة.
ولأجل ذلك يقدم العمال طلبات للحصول على تصاريحتمكّنهم من اجتياز المعابر المقامة بين مدن الضفة ومدن الداخل، ويدفعون لأجل ذلك مبالغباهظة، لكن معظمهم لا يوفقون في الحصول عليها، فيضطرون للدخول دون تصاريح، رغم ما يواجههممن مخاطر ناجمة عن ملاحقة شرطة الاحتلال لهم.
العامل "ي.ق" من مدينة الخليل جنوبالضفة لم ينجح، رغم محاولاته الحثيثة بالحصول على تصريح للعمل داخل الأراضي المحتلة،ودفعته البطالة لدخولها بطريقة "التهريب"، التي رغم خطورتها لا يجد لها العاملالفلسطيني بديلا.
ويقول لـ"عربي21": "حاولت أكثرمن مرة الحصول على تصريح أمني، وفي كل مرة يتم رفض اسمي؛ لأنني اعتقلت لثلاثة أشهر عام2005 في سجون الاحتلال، وكأنها نقطة وُضعت على ملفي بألا يتم إعطائي تصريحا للدخول،وبعد ذلك عملت في ورشات بناء بالضفة، ولكن كنا نعاني قلة الأجور وطول ساعات العمل، حيثمقابل 12 ساعة يكون الأجر 60 شيكلا فقط (17 دولارا)".
الأجر المضاعف الذي يدفعه أرباب العمل في الداخلالمحتل هو العامل المغري الذي يجذب العمال إليهم، لكنه يحوّل سعيهم للعمل إلى لقمةمغمسة بالدم.
ويوضح "ي.ق" أن العمال الفلسطينيينعادة ما يسلكون طرقا ترابية صعبة لا تتمكن المركبات العادية من السير فيها، وتكون تلكقريبة من منطقة الرماضين البدوية أقصى جنوب الخليل للوصول إلى الجدار العنصري المشيّدحول الضفة، والبحث عن فتحاتٍ داخله للمرور منها، وإن كانت صغيرة وشائكة.
ويتابع: "أكثر من مرة تعرضنا لإطلاق النارمن الجنود في أثناء محاولتنا الدخول من الجدار، كما أن بعض مقاطعه محاطة بالأسلاك الإلكترونيةالتي تعرض حياتنا للخطر إذا لمستها أجسامنا، فيما تكون عادة مركبات شرطة الاحتلال تحرستلك الأماكن من الداخل، وتستعد لتطلق النار بعد عبورنا أو ملاحقتنا".
حتى إذا تمكن العامل من الوصول بسلام والعملفي الأراضي المحتلة بعد سلوكه تلك الطرق الصعبة، فإنه يواجه كابوس المطاردة في أي وقت،حيث يضطر العمال "المهرّبون" للمبيت في عبّارات الصرف الصحي أو العراء؛ لتفاديدوريات الشرطة التي تداهم عادة أماكن العمل، وتعتقل العمال لعدة أشهر، وتعتدي عليهم بوحشية.
"الجانب غير المشرق"
وعلى الجانب الآخر، يحصل بعض العمال على التصريحالمطلوب. في تلك الحالة يظنون أنها البطاقة الذهبية التي تسهّل حياتهم، لكنهم يفاجأونبالإجراءات العنصرية التي يفرضها الاحتلال حتى عليهم.
وعلى سبيل المثال، يضطر العامل للاستيقاظ في الثالثةفجرا كل يوم؛ حتى يتمكن من اللحاق بدوره على أحد المعابر، وهناك يكون المشهد القاسيبتكدّس مئات العمال وانتظار دورهم حسب مزاج الجنود، وليس ذلك بتلك السهولة؛ فعادة مايقوم أولئك بالتنكيل بالعمال عبر المماطلة في إجراءات التدقيق بالتصاريح، ما يسبب الأزماتوالتدافع الذي أودى بحياة بعض العمال على مدار السنوات الأخيرة، فيما يقوم الجنود أحيانابإطلاق قنابل الغاز بين جموع العمال المنتظرين، في محاولة لإسكات احتجاجهم، بينما لايكترث الاحتلال كثيرا بتوفير مستلزمات السلامة العامة للعمال داخل الورشات المختلفة، ما يعرضهم لخطر الموت المحقق، الذي راح ضحيته 19 عاملا منذ بداية العام، معظمهم فلسطينيون، وذلك بمعدل ضعفين ونصف لكل 100 ألف عامل في الداخل المحتل مقارنة مع الاتحاد الأوروبي،وفقا لمؤسسة "عنوان العامل في إسرائيل".
وتبقى المعضلة الرئيسية في ارتفاع نسبة البطالة، التي تجبر الفلسطينيين على العمل ضمن ظروف قاسية تحت رحمة احتلال ظالم، حيث توضح إحصائيةصادرة عن جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني عشية يوم العمال العالمي أن معدل البطالةفي فلسطين ارتفع في العام 2018 ليصل حوالي 31% من بين الأفراد المشاركين في القوى العاملةمقارنة مع حوالي 28% في عام 2017، فقد بلغ معدل البطالة حوالي 18% في الضفة الغربيةفي عام 2018 مقارنة مع حوالي 19% في عام 2017، ويصل عدد العمال إلى 954 ألفا في الضفةوالقطاع.
مزيد من التفاصيل