قالت صحيفة "نيويورك تايمز"في تقرير لمراسلتها فيفيان يي إن نصبا تذكاريا لشهداء ثورة 2011 تعرض للتدمير قبلفترة في تونس، لم يلفت "إليه انتباه أو اهتمام أحد في بلد لم يعد لديه الرغبةللتذكر". وقالت إن بعض سكان بلدة الكرم، وهي ناحية تقع في شمال العاصمة تونسيقولون إن من دمر النصب الذي يحمل أسماء ثمانية من أبناء البلدة أثناء التظاهراتيعاني من مرض عقلي وقال آخرون إن من دمره كان مخمورا، ومهما كان الفاعل لم يهتمأحد من أبناء البلدة بإصلاح الضرر.
وقال أيمن طاهري، 40 عاما صاحب مشتليكافح للبقاء "لا أحد يهتم بهذا المكان كما ترين" و"خلال العامالأول للثورة كان هناك نوع لدعم كل واحد ولكن الأمر اختفى الآن". وبعد عقديتذكر التونسيون انتفاضاتهم التي قلبت المنطقة رأسا على عقب وأصبحت تعرف بالربيعالعربي التي أطاحت بأنظمة ديكتاتورية وفتحت المجال أمام الديمقراطية، بنوع منالتردد الذي يصل للعداء ونشوة توقفت منذ وقت طويل.
وفي 14 كانون الثاني/يناير الذي علممرور 10 أعوام على الذكرى التي أنهت حكم زين العابدين بن علي لم يكن هناك احتفاءرسمي ولكن احتجاجات ضد التردي الاقتصادي الذي لا نهاية له في الأفق. وأكثر منالتذكر هناك حالة من الندم كما تقول. فلم تجب الثورة إلا على عدد قليل من الآمالالتي توقعها الناس، من فتح المجال أمام الفرص الاقتصادية والمحاسبة ونهاية الفساد.
وكانت خيبة الأمل بالقادة المنتخبينسببا في دعم الكثير من التونسيين لأحداث تموز/يوليو عندما همش الرئيس قيس سعيدالبرلمان واستولى على السلطة بشكل عجل بأزمة سياسية لا تزال تعصف بالبلاد. وقالطاهري: "الثورة أصبحت تاريخا ونحن نتقدم للأمام الآن". وفي عام 2019 قررعمدة الكرم تخليد مشاركة البلدة في ذلك التاريخ، واختار للنصب دوارا تحيط به مقهى فارغ، بقايا موقف سيارات، محل لبيع السيارات ومحل لبيع الحقائب الرخيصة. وفي مركزالدوار أعشاب جافة تقع وسطها سنبلة معدنية سوداء يحلق من طرفها العلم التونسي. وفيصباح أحد الأيام كان طاهري يناقش مع عماله في المشتل تنظيف الدوار من أعقابالسجائر وري الأعشاب. ولم يطلب منه أحد عمل هذا، لكن البلدية لا مال لديها ولا أحدلديه الإرادة وفكر أنه لو عمل هذا فهو أمر جيد.
اقرأ أيضا: استطلاع: 51% من التونسيين يرفضون انقلاب قيس سعيد
وقال إنه لم يفكر في عمله هذا بتشريفالشهداء. وهذا لا يعني التقليل من تضحياتهم، ففي عام 2011 قال إن قمع بن عليوفساده جعل من الثورة أمرا لا مفر منه والثورة محتومة. ومع ذلك فتونس التي كانتتنتشر فيها الساعات التي حملت رقم 7 تكريما لانقلاب السابع من تشرين الثاني/نوفمبرالذي جلب بن علي إلى السلطة تفتقر لنصب تحتفل بمن أسقطوه. ويقول المسؤولون إن نصباتخلد من شاركوا في الثورة كان عليها الانتظار لحين مصادقة الحكومة على قائمة بمنسقطوا أو جرحوا فيها بآذار/مارس وبعد مناشدات من عائلات الضحايا والجدال حول منيجب اعتباره "شهيدا" واتهموا المتعاطفين مع النظام البائد بعرقلةالعملية.
وما وجد من نصب قامت به السلطاتالمحلية بمبادرات منها أو وضعتها العائلات على حسابها. وقال فتحي لعيوني، عمدةالكرم: "لسنا مهتمين بالقائمة الرسمية المفصلة" و"نعرفشهداءنا جيدا وقمنا بالمبادرة لتخفيف معاناة وآلام العائلات".
وتقول يي إن هناك خلافا حول ذاكرةالثورة، فقد قضت هيئة الحقيقة والكرامة سنوات وهي تجمع الأدلة عن الجرائم التيارتكبت في ظل نظام زين العابدين بن علي وسلفه الحبيب بورقيبة لتجد نفسها أمامعراقيل لمحاكمة الجناة.
وبعد إزالة نصب بورقيبة على ظهر حصانعام 2011 أعيدت من جديد عام 2016 ولنفس الجادة التي تحمل اسمه وهتف منها المحتجونمطالبين بن علي بالرحيل. وعند السير إلى جانب الجادة لا يعرف أحد أن الساحةالقريبة من التمثال يفترض أن اسمها هو 14 كانون الثاني/يناير 2011 ولكن بدونلافتة. ومن السهل لوم المتعاطفين مع النظام السابق في السلطة، لكن التونسيين لديهمحنين أكبر للديكتاتور السابق أكثر من الثورة التي أطاحت به. وقالت سندس كوني، 55عاما من مدينة صفاقس إن بن علي لو استمر يحكم بنفس الطريقة التي حكم فيها بسنواتهالأولى "ربما بقي"، ولم تشارك كوني في ثورة 2011 لكنها اقتنعت فيالنهاية أن على بن علي الرحيل. وقالت إن من ماتوا في الإحتجاجات "لم يموتوا عبثا" و"بعد ذلك ارتكبت أخطاء كانيجب ألا تحدث". وبحسب طاهري وغيره لم يعمل قادة تونس بعد الثورة أي شيء غيرإثراء أنفسهم وأصدقائهم، ولا يشعر بالمرارة أكثر من عائلات الموتى. والسنبلةالسوداء ليست الوحيدة التي تخلد شهداء الكرم، فهناك نصب رخامي أصغر نقشت عليهأسماء الشهداء الثمانية وتزوره العائلات أمام النصب الأكبر فتجري حوله إحياءالذكرى. وقالت سعيدة السيفي، 63 عاما: "قمنا به حتى تظل أسماؤهم" وقتلابنها شكري السيفي الذي كان يعمل في محطة وقود أثناء الإحتجاجات. وفي داخل البيتعدة صور بشكل تحوله إلى نصب.
وانتقلت العائلة إلى البيت بعد وفاتهوقالت إنه بيت للدولة وعلقت على بابه يافطة قالت إنه بيت الشهيد. ورغم محاولاتالحكومة إخراجهم منه إلا أن العائلة تعيش فيه منذ ذلك الوقت. وتعتبره السيفي حقهالأنها ضحت بابنها من أجل تونس. وهي تتوقع من الرئيس سعيد تحقيق ما وعد به سابقاولم يتحقق وهو تقديم القتلة للمحاكمة وتعويض عائلات المفقودين.
وقالت: "لا أزال أدعم الثورة ولكنالسنوات الـ10 الماضية كانت فوضى". و"نأمل من الرئيس سعيد، وهو الرئيسالآن أن يحل المشاكل وينقذ البلد ويحقق العدالة".
وعندما تمر عربية جنيحي، 46 عاما تقفأمام النصب وتتأمل اسم زوجها نوري سقالة، النجار الذي قتل بالرصاص وكان عمره 30عاما أثناء الثورة: "عندما أرى اسمه، أعود إلى الماضي وتعود إلي ذكرياتي"و"كان من الممكن أن نعيش حياة طبيعية وربما أنجنبا أطفالا، لكن كل شيء كانحلما".
وقالت إن زوجها نوري شارك فيالإحتجاجات بسبب ما عاناه من سوء معاملة من كل مسؤول، حيث عنفته الشرطة وأهين فيقاعة البلدية وشوارع الكرم كانت مليئة بأشخاص مثله وحرقوا مركز الشرطة وأشعلواإطارات السيارات ولا تزال ترى الآثار. لكنها انضمت للثورة مع التيار العام ولمتخلف لها إلا الحسرة و"أتمنى لو أنني لم أذهب وأتمنى لو تحدث الثورة وفيلحظة تمنيت لو أنني لم ألقه" و"كان لدينا أمل وحلم ولكنه ظلحلما". ورغم الوعد المتبدد إلا أن طاهري لا يزال يؤمن بمثل الثورة "أظهرنا" أن "الناس هم الذين يملكون القوة".
مزيد من التفاصيل