جنح المصرف المركزي التركي أخيراً، وبعد تردد وعناد، إلى المنطق الاقتصادي الأبسط الذي يقول "زيادة العرض ستودي بالسعر" فبقاؤه يعالج تهاوي سعر الليرة التي فقدت نحو 45% من قيمتها هذا العام، بالوعيد والآمال، ومواجهة المضاربة العلنية بتخفيض سعر الفائدة، ما أفقر الأتراك الذين تآكل دخلهم وعزز من الدولرة بالسوق، بعد امتناع أصحاب مصالح عدة عن التسعير بالعملة المحلية جراء التذبذب والتراجع المستمريّن.
فمنذ اليوم الخميس، شمّر المركزي التركي عن ساعديه، ليقول لشركائه بالمصرف، لأن مركزي تركيا شركة مساهمة تمتلك أكثر من 45% من أسهمها مصارف وشخصيات اعتبارية، منها خارجية، ولمن يهمهم الأمر، إن أحزاباً معارضة تسعى لدخول الانتخابات على صهوة الليرة المتهاوية، أو دول خارجية، يؤرقها تسارع النمو التركي واقترابها من حلم 2023 بدخول نادي العشرة الكبار.
وليقول "أنا هنا" ويبدأ ببيع الدولار في السوق بالسعر الحقيقي، حتى ولو جازف بأهم أسلحته التي يخبئها لليوم الأسود، أي الاحتياطي الدولاري الذي يزيد عن 125 مليار دولار.
أي، بلغة السوق، بدأت منذ اليوم حرب كسر العظم بين الحكومة التركية، وفي مقدمتها الرئيس أردوغان، الذي لا يخفي حربه على الفائدة المرتفعة، وبين المضاربين، في الداخل والخارج وأنصار الفائدة المرتفعة الذين وجدوا بالفائدة التركية التي وصل سعرها إلى 22% العام الماضي، قبل أن تتراجع إلى 15% اليوم، ملاذاً آمناً وربحاً مضموناً لإيداعاتهم.
بيد أن هذه الحرب تبتعد عن مفهوم عضّ الأصابع ومن يصبر للنهاية، لأن حجم الاحتياطي محدود وجزء منه محرّم، ولأن شراسة "نكون أو لا نكون" هذه المرة تختلف عن تدخلات المركزي المباشرة السابقة، سواء عام 2014 وقت ضخ كميات دولارية محدودة، أو حتى عام 2018 وقت تصاعدت المواجهة بين أنقرة وواشنطن، فهوت الليرة نحو 14% في ليلة واحدة واقترب الدولار يومذاك، لأول مرة، من 6 ليرات.
كما أن دائرة المواجهة هذه المرة، مشفوعة بالتخفيض المستمر لأسعار الفائدة ومخاوف الأسواق، أكبر، جغرافية ولاعبين، مما سبق، ما يزيد من احتمالات طول المواجهة وما تحمله من مخاطر على الاحتياطي الدولاري وعلى الإنتاج ومعيشة الأتراك في آن واحد.
أنصار الفائدة المرتفعة وجدوا في الفائدة التركية التي وصل سعرها إلى 22% العام الماضي، قبل أن تتراجع إلى 15% اليوم، ملاذاً آمناً وربحاً مضموناً لإيداعاتهم.
هذا إن لم نأت على الآثار، إن طالت المواجهة، حتى على النمو الاقتصادي الذي ربما لنسبه المرتفعة "7.4 الربع الثالث من العام الجاري" زيادة استهداف تركيا وتعاظم المخاوف من نمر اقتصادي جديد، لأن استمرار تهاوي سعر الصرف، الذي قد ينعكس إيجاباً على تكاليف الإنتاج ويزيد بالتالي من تدفق الصادرات، سيؤثر مع التراكم على الإنتاج المحلي سلباً، وربما يدفع بالاقتصاد الكلي للتباطؤ.
خلاصة القول: تصدّر الحديث عن الليرة التركية، ومنذ أشهر، وسائل الإعلام والمنابر الاقتصادية الدولية، وكان لكثرة التداول أثرها النفسي الكبير في المخاوف وانسحاب الأموال والمستثمرين وتراجع السعر، رغم أن أبسط حقوق تركيا، التي تتطلع لاقتصاد قوي، أن تخفّض سعر الفائدة وتوجه المدخرات والإيداعات، من خزائن المصارف إلى قطاعات إنتاج حقيقية.
إذ لا يستوي سعر الفائدة المرتفع مع أحلام أي دولة تتطلع للصدارة، كما لا يمكن أن تبقى تركيا سوق أرباح مصرفية لأصحاب الإيداعات الذين لا يزيد سعر الفائدة في بلادهم عن 1%، طبعاً إن لم نتطرق إلى أن تركيا كحكومة من أكبر المقترضين من المصارف لتمويل مشروعات المئوية التي تتطلع لتدشينها عام 2023.
لكن الحصول على هذا الحق، وعلى وجاهته، لا يأتي عبر الذي رأيناه، من إعلان اتفاقات وأرقام استثمارات مباشرة، أو التشدد والتحقيق بتصريف العملة أو تقييد القروض فقط، أو حتى، وهنا الطامة، بتتالي تخفيض سعر الفائدة أو التدخل المباشر بقرارات المصرف المركزي، الذي وصل إلى تبديل ثلاثة محافظين خلال عام، فضلاً عن التصريحات المستمرة بالنقد، والتي لها ما لها من آثار، يبني عليها المتربصون والمضاربون، ويدفع ثمنها الاقتصاد والمستهلكون.
ولعل الأهم ربما، بالملاحظات على طرق المعالجة، هو التردد بالتدخل ومحاولات مخالفة علم الاقتصاد، فلو باع المركزي الدولار بنفس يوم تخفيض سعر الفائدة مائة نقطة الشهر الماضي، لتنبه ربما المضاربون إلى سلاح الاحتياطي وجدية الدولة بالدفاع عن عملتها، واطمأن صغار المدخرين والمستهلكون إلى أنّهم يسندون ظهرهم إلى جدار صلب.
نهاية القول: الأرجح أن تركيا، وقبل بلوغ حلم عام 2023، ستمر بمواجهات كثيرة، فأن تُعمم تجربة حزب "العدالة والتنمية" سياسياً واقتصادياً، فهذا ما لا يرضى عنه "ديموقراطيو الشمال" ولا بد من الضرب على الخاصرة الأضعف، قبل أن يشتد عود الاقتصاد التركي ويبدأ بتقليل فاتورة الطاقة "45 مليار دولار" وينتج الغاز ويعادل محلياً من استهلاك النفط المستورد، فكانت الليرة الذريعة للمضاربين والمتربصين، عبر كثرة التدخل والتصريحات والتردد باستخدام الأسلحة المعروفة والمتفق عليها بعلم الاقتصاد.
مزيد من التفاصيل