وصلت الأزمة في أوكرانيا إلى ذروتها؛ التصعيد الروسي سيعني خساراتٍ كبيرة لكل الأطراف. وبالتالي، يحاول الجميع، بمن فيهم روسيا، تجنُّبَه. تكمن الأزمة في رفض روسيا تقديم أي تنازلات، والتمسّك بورقتها التي أرسلتها إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والتي تخلص إلى أن على المجتمع الدولي الاعتراف بأحقية روسيا في النفوذ بمحيطها الإقليمي؛ فيما تحاول واشنطن، عبر التهديد بالعقوبات القصوى على روسيا والمحاصرة الاقتصادية، إيجاد مقاربةٍ تضمن التهدئة، وفي الوقت نفسه، كبح الجماح الإمبراطوري البوتيني الراغب في استعادة الأمجاد السوفييتية التوسعية، الأمر الذي يرفضه الكرملين، ما يدخل الأزمة في حالة استعصاء دولي، ستطاول امتداداته مناطق أبعد من المحيط الروسي، إذا ما أصرّت موسكو على شن حربٍ في شرق أوكرانيا.
يرى بوتين أن لروسيا الحق في مجالها الأمني، ويريد التخلّص من تبعات الحرب الباردة، وهو يعارض بشدّة انضمام أيٍّ من دول الاتحاد السوفييتي سابقاً إلى حلف الناتو، وبالتالي وجود بنى تحتية وقواعد للصواريخ تابعة للحلف في المجال الأمني الروسي؛ في حين يخشى جيرانها من غزو روسي ممكن (حصل في جورجيا عام 2008، وفي شبه جزيرة القرم عام 2014)، ما يدفعهم إلى البحث عن مساعدة "الناتو" وطلب الانضمام إليه. تملك موسكو أوراقاً للضغط على خصومها الأميركيين والأوروبيين؛ فالكرملين يسعى إلى قيادة أنظمة موالية له في المنطقة، ويجد مداخل لذلك بدعم الديكتاتوريات القائمة وضد ثورات الشعوب، في ظل تراجع الدور الأميركي. ولدى موسكو ورقة الدعم الصيني السياسي والاقتصادي، باعتبار أن الصين مهتمة بدعم الديكتاتوريات، وتريد كسب روسيا في صفها، كما تفعل مع إيران، في معركتها للصعودين، الاقتصادي والسياسي، وربما العسكري، ولمواجهة الحصار الأميركي والغربي عليها. تتحدّث روسيا عن احتمال نشر صواريخ في كوبا وفنزويلا، وسفن تحمل صواريخ في المياه الدولية قرب الشواطئ الأميركية، وتعمل موسكو على توسيع القواعد العسكرية في بيلاروسيا، في حين أنها زادت تقاربها مع إيران، وأصبحت تؤيد شروط الأخيرة التصعيدية في الملف النووي، بعد أن كانت روسيا وسيطاً بينها وبين الغرب. وفي سورية، قد تتخلّى روسيا عن سياسة غض النظر عن الضربات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية، وقد تسمح بضربات إيرانية لإسرائيل. وأخيرا، أجرت موسكو مناورات مشتركة مع النظام السوري في الجولان المحتل، في رسالة إلى إسرائيل وأميركا، وأن إيران أصبحت أكثر أهمية من إسرائيل بالنسبة لروسيا.
لا رغبة لدى الأوروبيين بالتصعيد مع روسيا، بسبب انشغالهم بالأزمات المحلية الناتجة عن مواجهة جائحة كورونا وأزمة الطاقة
يضاف إلى ما سبق حجم التبادل التجاري الكبير نسبياً بين روسيا والاتحاد الأوروبي. وهناك أزمة الطاقة التي تعيشها أوروبا، بسبب جائحة كورونا، ولوحت روسيا بقطع غازها (يشكل 40% من إمدادات الغاز الأوروبي) عن أوروبا، في حين أن البدائل الأوروبية هامشية، إذ لا تستطيع قطر (أكبر دولة منتجة للغاز الطبيعي المسال)، تغطية الحاجة الأوروبية من الغاز، بسبب ارتباطها بعقود طويلة الأمد تخصّ تحويل معظم غازها إلى دول آسيا. بالتالي، تراهن روسيا على عدم رغبة دول الاتحاد الأوروبي باستمرار الأزمة، وعلى التلكؤ التركي في دعم حلف الناتو ضد روسيا، بسبب الحسابات التركية الجيوسياسية والعسكرية التي تخصّ العلاقة مع روسيا؛ وكذلك تملك موسكو أوراق ضغط متعدّدة على واشنطن على الجبهات الأوروبية وشبه جزيرة القرم وبيلاروسيا وجورجيا وفنزويلا وكوبا وفي الشرق الأوسط.
على الرغم من كل ما سبق، لا ترغب موسكو بالتصعيد في أوكرانيا؛ فهي لا ترغب بمزيد من العقوبات الاقتصادية، حيث تعاني من أزمة اقتصادية ومعيشية تهدّد بتحرّك شعبي داخلي، وهي أكثر تضرّراً من دول الاتحاد الأوروبي، في حال قطع العلاقات التجارية والمالية معها؛ وروسيا متورّطة في حروب في الشرق الأوسط، لم تستطع إيجاد حلولٍ نهائية لها، وقد تضطر إلى توسيع تدخلها في كازاخستان لدعم نظام الحكم ضد الانتفاضة الشعبية، ولا ترغب بالذهاب كثيراً في تحالفها مع الصين، لأن الغلبة ستكون لبكين، ولا في تحالفها مع طهران، حيث لا تؤيد وجود إيران نووية، وتدرك أهمية الحفاظ على صداقةٍ قويةٍ مع إسرائيل، كما أن فشلها في الدفع بالحل الروسي في سورية، ودعم بقاء نظام الأسد، والتطبيعين، العربي والدولي مع هذا النظام، سبب هذا كله التعطيل الأميركي، ما يدفع موسكو إلى حل مشكلة العداء مع واشنطن. الممكن أمامها غزو محدود لإقليم في أوكرانيا، يضم الأقلية الروسية التي تدعي موسكو، على الدوام، أنها مضطهدة في أوكرانيا.
تقديرات بوتين ومستشاريه عن حجم التراجع الأميركي في العالم غير دقيقة، ومن الخطأ المراهنة عليها
بالمثل، لا رغبة لدى الأوروبيين بالتصعيد مع روسيا، بسبب انشغالهم بالأزمات المحلية الناتجة عن مواجهة جائحة كورونا وأزمة الطاقة، وواشنطن ترغب في إيجاد صيغةٍ للتهدئة مع موسكو، وليست في وارد تدخل عسكري، وهي المنسحبة من أفغانستان، والراغبة في الانسحاب من الشرق الأوسط، لولا خوفها من أن تحل الصين محلها بمبادراتها حول الحزام والطريق، وحلف شنغهاي ومحاولتها نشر قواعد عسكرية في الخليج العربي، وتشكيل حلفٍ صينيٍّ روسي وإيراني، قد يتوسّع أكثر. وكذلك فإن سلاح العقوبات المشدّدة على روسيا والحصار الاقتصادي، قليل الفعالية، بسبب عدم تحمّل أوروبا تبعاته، وبسبب إمكانية مساعدة الصين لروسيا.
يعتقد القيصر الروسي أن بإمكانه استعادة أمجاد روسيا السوفييتية، عبر ملء الفراغ الناجم عن تقلص حجم الدور الأميركي في الصراعات العالمية، فتقديرات بوتين ومستشاريه عن حجم التراجع الأميركي في العالم غير دقيقة، ومن الخطأ المراهنة عليها، أو المغامرة في تصعيدٍ يؤدّي إلى زيادة تأزيم الأوضاع من دون حلّها؛ فروسيا غارقة في المستنقع السوري، وعاجزة عن فرض حلول أحادية، وتدخّلها في سورية ممسوك بالقبضة الأميركية، وبتعقيدات التدخلات، التركية والإيرانية والإسرائيلية، وقد تعيد الكرّة بدعمها الديكتاتورية في كازاخستان، كما فعلت من قبل بضمّها شبه جزيرة القرم في 2014، عقب سقوط الرئيس الأوكراني الموالي لها باحتجاجات شعبية في كييف. وها هي تتورّط بتصعيد بهلواني في أوكرانيا، وهي أول الراغبين بتجنّبه.
مزيد من التفاصيل