بدأت الإدارة الأمريكية تفكر جديا في بناء جسر جوي مباشر لإعادة تسليح إسرائيل للإسراع بالحسم العسكري ، ولكن كان عليها أن توازن بين العواقب المترتبة على مثل هذا القرار. لقد كان لغرفة العمليات بوزارة الخارجية ومن خلفها هنري كيسنجر ، دور فعال في إقناع الرئيس نيكسون باتخاذ هذه الخطوة في العلن وبطائرات حربية أمريكية يقودها طيارون أمريكيون.
إن الوضع " الساكن" الذي تشير إليه وثيقة اليوم على الجبهة المصرية ، ربما كان يرجع لسببين رئيسيين:
• الأول: أن القوات الإسرائيلية كانت لا تزال فاقدة لتوازنها على الجبهة المصرية.
• الثاني: أن القيادة المصرية لم تكن قد حسمت أمرها بعد في الخطوة التالية التي يجب اتخاذها على الأرض.
فبعد أن حققت القوات المصرية، المرحلة الأولى من خطة العملية بدر ، كان عليها الانتقال إلى المرحلة التالية. كانت الفرق المشاة الخمس قد حققت المهام التي كلفت بها، من قبل قادة الجيوش، بوصولها إلى خط المهمة المباشرة للجيوش، وعلى قادة الجيوش تكليفها بمهام جديدة، مع إعادة دعمها، ودفع قوات جديدة من الاحتياطيات ، والتي كانت تشمل الفرق المدرعة والآلية، وكانت مازالت في الغرب، عدا ما سحب منها لدعم فرق نسق أول.
كانت الجيوش الميدانية . حتى نهاية يوم 12 أكتوبر كانت تعليمات القيادة المصرية لقواتها تشمل:
• العبور شرقاً، وتدمير العدو في المواجهة والاستيلاء على رؤوس كباري موحدة للجيش بعمق 10 ـ 12 كم (عدا الفرقة 18 مشاة، التي تعمل على محور منفصل، يكون عمق رأس الكوبري المحدد لها 7 ـ 8 كم) وتحقق المهمة المباشرة للجيش، بنهاية اليوم الثالث للعمليات.
• تكون مستعدة لصد وتدمير الضربات المضادة لاحتياطيات العدو.
• بعد وقفة تعبوية، أو بدونها، يتم خلالها صد وتدمير ضربات العدو المضادة، وتكبيده أكبر خسائر ممكنة، في معارك دفاعية نشطة، تكون الجيوش مستعدة، لتطوير الهجوم في العمق بأوامر من وزير الحربية.
• الضربة الرئيسية بقوة 2 فرقة مدرعة، وبالتعاون مع عناصر من فرق نسق أول، تدمر احتياطيات العدو المقتربة في معارك تصادمية، وتستولي على منطقة المضايق الجبلية غرب سيناء، محققة المهمة النهائية للجيوش.
• الضربة الأخرى (لكل جيش) بقوة لواءات مدرعة أو آلية، على محاور منفصلة تعمل كمفارز لفرقها، لتدمير العدو على محور تقدمها، وتستولي على الممرات الجبلية ومدينة مصفق (على الطريق الساحلي)، محققة المهمة النهائية للجيوش.
• تتحول الجيوش الميدانية للدفاع على خط المهمة النهائية (المضايق الجبلية الغربية لسيناء) وتعزز عليه.
• عمق المهمة النهائية 72 ـ 80 كم، تحقق بعد 4 ـ 5 يوم قتال بعد تحقيق المهمة المباشرة للجيوش، أي اليوم السابع أو الثامن للعمليات (13 ـ 14 أكتوبر).
كانت الوقفة التعبوية مخططة، ووضح من المهام المكلف بها الجيوش أنها ـ إذا نفذت ـ تكون بعد تحقيق المهمة المباشرة للجيوش، والتي حدد لها اليوم الثالث للعمليات (أي يوم 9 أكتوبر إذا استمرت الأمور كما مخطط لها)، لم يحدد ماذا يتم فيها، إلا أن العسكريين، يعرفون أن هناك إجراءات معينة تتم في الوقفات، كما أن المهمة ذكرت أنها وقفة تعبوية وهو ما يعني أن على قادة الجيوش أن يتخذوا بأنفسهم قرار التوقف، أو متابعة الهجوم، وأن عليهم كذلك تحديد زمن الوقفة، والإجراءات الإضافية ـ بخلاف المعتاد ـ التي تتم فيها، ويخصصوا الوحدات التي ستنفذ ذلك.
حتى يوم 9 أكتوبر، لم تكن القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية، قد اتخذت قراراً بشأن الاستمرار في الهجوم والتطوير شرقاً، ولذلك رأينا في الحلقات السابقة مناورات سياسية للرئيس السادات حين بادر بالاتصال سرا بالإدارة الأمريكية.
لذلك بقيت الفرق المدرعة في الغرب، وكلفت بمهام تأمين المنطقة الخلفية للجيوش في الغرب.
بينما كانت فرق الجيش الأول مازالت تصد هجمات الدبابات الإسرائيلية، التي لم تتوقف، وإن كانت قد ضعفت، وهو ما شجع قادة الفرق المشاة، على تحسين أوضاع قواتهم، واكتساب مزيد من الأرض التي تحقق لهم ميزة تكتيكية، دون أن يحاولوا الضغط على العدو جدياً، ليمنعوه من الاستمرار في تلك الهجمات المضادة المزعجة، على طول الجبهة، والتي بدأت تنهك القوات، وتستنفد الدبابات العاملة معها، دون مبرر.
كان هناك خلاف في القيادة العامة، على تنفيذ الوقفة، وهو أمر خطير عندما يحدث بين العسكريين، في قيادة واحدة، وزمن الحرب، وفي وقت حرج.
وقد أدى خلاف مماثل، على الجانب الآخر (القيادات الإسرائيلية) إلى خسائر كبيرة في الدبابات خلال وقت وجيز" ('كان القادة الإسرائيليون، مختلفون فيما بينهم، على إسلوب توجيه الهجمات المضادة، في المرحلة الأولى للقتال.')"
كان رأي، مؤيدي إجراء وقفة تعبوية ، الاستفادة مما ستحققه من أهداف، تخدم خطة الهجوم العامة، بعد ذلك. وكان أهم هذه الأهداف هي:
• ضمان ثبات رؤوس الكباري، المستولى عليها شرق القناة، مع تحمل بعض الخسائر، مقابل إنزال خسائر أكبر بالعدو، وهو ما ستوفره حالة الثبات التي ستكون عليها القوات، وتوفير تجهيز هندسي عاجل، يتيح وقاية نسبية للقوات المصرية.
• ستشكل رؤوس الكباري، إذا تم تعزيزها، وتجهيزها هندسياً، قاعدة قوية، تستند إليها أعمال تطوير الهجوم شرقاً.
• يتحقق دفاع جوي عن القوات داخل رؤوس الكباري، ويمكن ذلك من إسقاط أكبر عدد من طائرات العدو، خلال الوقفة، فلا بد أن الطائرات الإسرائيلية ستحاول مهاجمة القوات أثناء الوقفة.
• إتاحة الفرصة لإجراء انتقال قتالي، لعناصر الدفاع الجوي بالصواريخ، خلف القوات عند بدء التطوير.
• ضمان استمرار الاتزان الاستراتيجي في مسرح العمليات، والمحقق بوجود الأنساق الثانية للجيوش الميدانية (الفرق المدرعة، وفرق المشاة الآلية)، واحتياطيات القيادة العامة، غرب القناة. إذ أن الاستمرار في الهجوم (التطوير شرقاً) يستلزم تحركها إلى الشرق، لتشارك في مهام رئيسية خلال التطوير، ويترك الغرب خالياً، وهو ما يخشى استغلاله من قبل القوات الإسرائيلية.
• استغلال فترة التوقف، لإعادة تنظيم وتجميع القوات في مناطق رؤوس الكباري، واستكمال الإمداد الإداري والفني بالاحتياجات استعداداً لتطوير الهجوم شرقاً.
كان الجانب الآخر، المؤيد لاستمرار الهجوم الفوري، يرى غير ذلك، فقد كانت هناك مميزات لا يمكن إغفالها، لو استمرت القوات في أعمالها الهجومية، وسلبيات، لا يمكن إغفالها كذلك، في حالة التوقف والتحول إلى الدفاع المؤقت (الوقفة التعبوية)، وكانت أهم تلك العوامل هي:
• المحافظة على الروح الهجومية للقوات، واستغلال الروح المعنوية العالية التي تتمتع بها، حتى هذا الوقت.
• الاستمرار في إحراز المبادرة، والحفاظ عليها، وعدم تسليمها للقوات الإسرائيلية، والتي كانت تحاول انتزاعها من القوات المصرية، منذ بدأت الحرب. كما فعلت على مرتفعات الجولان ونجحت فيه.
• استغلال الارتباك الذي يسود القيادات الإسرائيلية، على مختلف المستويات، والنقص الشديد في المعدات والقوات، نتيجة للخسائر العالية التي منيوا بها، وعدم تنظيمهم لدفاع قوي مجهز بعد خط بارليف، مما يتيح فرصة جيدة للقوات المصرية، لسرعة تحقيق مهامها النهائية، بالوصول إلى خط المضايق الجبلية الغربية لسيناء.
• التنازل طواعية عن المبادرة الهجومية، وهو مبدأ حربي هام ومؤثر للغاية، وكذلك مبدأي المحافظة على الغرض، واستمرار الضغط على الخصم بالأعمال الهجومية، وبذلك تكون القوات المصرية قد فقدت مبادئ هامة جداً، سيستفيد منها الإسرائيليون حتماً يترتب على استمرار الهجوم، التحام قوات الدولتين، وهو ما يضعف تأثير القوات الجوية الإسرائيلية ويعوض عن ضعف مشاركة صواريخ الدفاع الجوي في حماية القوات المصرية.
• التوقف يمكن القوات الإسرائيلية من إنهاء أعمالها القتالية، ضد سورية، والتي حشد قوته الرئيسية ضدها في هذا الوقت، وقد ظهرت بوادر انكسار الهجوم السوري نتيجة لذلك، ثم التفرغ للجبهة المصرية بكل قوته.
كان التوقف في الواقع يهدم عاملين أساسيين بنيت عليها خطة العملية الهجومية بدر:
(1) إجبار إسرائيل على القتال على جبهتين في وقت واحد، وهو ما تفادته دائماً.
(2) التعاون مع الجبهة السورية، والتنسيق معها مما يربك الإسرائيليون، ويخفف قواتهم خاصة الجوية والمدرعات.
كان هناك إذن تخوف حقيقي أن يتيح التوقف، انتقال القوات الإسرائيلية للهجوم، وستضع ثقلها كله في محاولة للوصول إلى قناة السويس، وتطويق القوات المصرية في الشرق، وحصارها، مما سيضعها في موقف أفضل، عندما يفرض المجتمع الدولي وقف إطلاق النار، والذي لن يتأخر كثيراً عند تحقيق إسرائيل ذلك ، بل إن هنري كيسنجر – كما اتضح في عدة وثائق سابقة – كان ينتظر هذه اللحظة الدبلوماسية لاستصدار قرار وقتها بوقف إطلاق النار.
كان من مؤيدي التوقف، وزير الدفاع، ورئيس الأركان (الذي كان يعارض التخطيط للوصول إلى المضايق الجبلية الغربية لسيناء أصلاً)، وكذلك رئيس الجمهورية. بينما كان من مؤيدي الاستمرار في الهجوم، رئيس هيئة العمليات (المخطط للعملية كلها)، وقادة الجيوش الميدانية (منفذي العملية).
كان مؤيدو الوقفة التعبوية هم في الواقع متخذو القرار السياسي والعسكري (رئيس الدولة ووزير الحربية) بينما مؤيدو استمرار الهجوم هم المخططون (ورأيهم استشاري) والمنفذون (وهم لا رأي لهم سوى تنفيذ الأمر الصادر اليهم، ويمكنهم فقط أن يطلبوا دعماً أو ضماناً إضافياً لتحقيق الأمر .
ببزوغ فجر 13 أكتوبر كانت العمليات العسكرية على محك حرج.