أصيب القطاع العقاري في العراق بحالة من الشلل المفاجئ بعد إعلان ضوابطَ جديدةٍ من البنك المركزي العراقي، أهمّها ضرورة أن تكون عمليات البيع والشراء للعقارات التي تتجاوز قيمتها 100 مليون دينار (76 ألف دولار)، من خلال التعاملات المصرفية. وجاء هذا الإجراء الجديد بعد عامين من تطبيق إجراء مماثل بسقف مالي أعلى؛ أن يكون العقار بسعر 500 مليون دينار (380 ألف دولار).
وفي الحيثيات، تهدف هذه الضوابط إلى مكافحة غسل الأموال، وسحب العملة العراقية من البيوت، التي يقدّرها مراقبون بحوالي 80% من الكتلة النقدية في العراق. وهو مؤشّر إلى ضعف الثقة بالنظام المصرفي من المواطن العراقي، الذي يفضّل الاحتفاظ بأمواله في بيته بدلاً من إيداعها في المصارف.
يسخر كثيرون من المتابعين في مواقع التواصل الاجتماعي من القرار المفاجئ، وأنه قد يكون متماشياً مع المطالب الأميركية لمحاولة ضبط العمليات المالية في العراق، ومحاربة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتهريب العملة، غير أنه لا ينظر إلى معطيات الواقع العراقي بواقعية. عملياً، لا يعيش العراق منذ غزو الكويت في 1990 في وضع مالي ومصرفي طبيعي، وكان من المتوقّع بعد 2003 أن يعود العراق إلى الوضع الطبيعي، لكن هذا لم يحدث. بل رأينا عقباتٍ عديدة يواجهها المتعاملون مع المصارف في العراق.
يستطيع العراقي المقيم في دولة مجاورة للعراق أن يفتح حساباً مصرفياً بكلّ سهولة، ويتعامل ببطاقات الدفع الإلكتروني في يومياته كلّها، ويحوّل الأموال ويتسلّمها من خلال تطبيقات على هاتفه المحمول. بل إن الطبيعي، في غالبية الدول، أن تكون هناك "هُويَّة مالية" للمواطن أو المقيم، من سنّ الثامنة عشرة. لكن ما هو متحقّق من هذه الهُويَّة المالية في العراق، بعد أكثر من 20 عاماً من عمر النظام السياسي الجديد، متواضع جدّاً. لقد منحت وزارة المالية العراقية مثلاً منذ سنوات بطاقات "كي كارد" للمتقاعدين والموظّفين، لتسهيل سحب مرتّباتهم من منافذ متعدّدة، لتخفيف الزحام والجهد، لكن هذه البطاقات صارت منفذاً هائلاً للفساد، بالاضافة إلى الاستقطاعات العالية غير المنطقية. كما أن المتقاعد والموظّف يضّطر إلى سحب مرتّبه كلّه، ثمّ يتحفظ به في البيت. أيّ أنها مُجرَّد وسيلة دفع إلكترونية، وليست منصّة حسابات مصرفية.
تريد الحكومة العراقية تعزيز ثقة المواطن بشبكة المصارف العراقية، ولكنّ تخوّفات المواطن لم تأت من فراغ، بسبب المشكلات التي حصلت خلال السنوات الماضية، ومنها إفلاس المصارف. وشخصياً، كنت شاهداً على حالات من هذا النوع، إذ تعلن بعض المصارف عن افلاسها فجأة، وأنها غير قادرة على تسديد الأموال لعملائها، وفي بعض الحالات أدّى الأمر إلى صدام وتشابك بالأيدي، وحالات من الهياج والغضب مع حرّاس المصارف المُفلِسة. فكيف يثق المواطن بالمصارف؟
لا يفكّر المواطن إزاء الإجراءات غير المنطقية للبنك المركزي العراقي بالوسيلة المناسبة لتطبيق هذه الإجراءات، وإنما كيف يمكنه أن يحتال عليها، ومن ذلك أن يُتَّفق بين البائع والمشتري للعقار بتسجيل ثمن العقار دون مائة مليون دينار، وتمضي الإجراءات القانونية من دون الحاجة إلى المرور بالمصارف، ثمّ يُكمَّل ما تبقَّى من السعر الفعلي للعقار، خارج الدوائر القانونية. ولمزيد من السخرية، فإن من يأتي للمصرف من أجل إيداع مبلغ أعلى من مائة مليون دينار، سيطالبه المصرف بإيصالات لمصادر الأموال، وإن لم يوفّر المواطن هذه الإيصالات، يُصادَر المبلغ باعتباره مجهول المصدر أو غسل أموال.
إن الحكومة التي تنظر بقلق إلى إجراءات وزارة الخزانة والبنك الفيدرالي الأميركي، وتحاول مسايرتها، ثمّ تلقي بالمشكلة على المواطن، بدلاً من أن تسعى إلى تعزيز مصداقية نظامها المصرفي، والدفع التدريجي لاعتماد التعاملات البنكية الإلكترونية، التي تشجّع المواطن شيئاً فشيئاً على اعتمادها، ما يحقّق الأهداف لاحقاً، وبخطوات مدروسة، لسحب العملة من البيوت العراقية، وإلى زيادة الرقابة على حركة الأموال.
قد تحقّق الإجراءات المفاجئة "إنجازاً" بنظر الحكومة أمام الضغوط الخارجية، ولكنّها تعصف بالحياة العراقية، وتزيدها إرباكاً وتعقيداً، زيادةً على ما هو مربك ومعقّد أصلاً، في مناحي الحياة الاجتماعية والأمنية والسياسية في العراق اليوم.

مزيد من التفاصيل