بئر السبع تحت الاحتلال الإسرائيلي
إقترفت القوات الصهيونية مذبحة عندما دخلت بئر السبع. ويذكر الناجون منها أن الجثث قد تكومت فوق بعضها. ومن بقي على قيد الحياة من الأهالى نقلوا في شاحنات أفرغت ركابها على حدود غزة. كذلك يتحدث الأهالي عن مذبحة العتايقة التى لم يستطع أحد من الناجين ذكرها إلا بعد سنوات طويلة. أما عرب العزازمة فقد طاردتهم وحدة 101 بقيادة شارون على مدى سنوات عديدة (1950 – 1954) وقتلت منهم الكثير وطردتهم إلى مصر. لقد كان هذا هو النسق المعتاد لعملية التطهير العرقي الذي مارسته الصهيونية منذ ذلك الحين.
عندما أجليت العشائر من مواطنها، وعلى رأسها القيادات الوطنية، بقي في إسرائيل 14,000 شخص، 90% منهم من قبيلة التياها، والآخرون بقايا عشائر لم ينزح أفرادها كلهم. بدأت إسرائيل بخطة متكاملة للسيطرة على الأراضي العربية، وضربت عرض الحائط بحقوقهم في العهد العثماني والبريطاني.
تعتمد إسرائيل في نهبها للأرض العربية على قانون الأراضي العثمانية الصادر عام 1858، الذي يعتبر السلطان خليفة المسلمين، هو المرجع الأعلى لملكية معظم أراضي فلسطين، عدا الوقف. وتعتبر إسرائيل نفسها 'خليفة' السلطان، وبالتالى فهي تملك كل أرض فلسطين، ما لم يُثبت مالكها أو حائزها عكس ذلك. وتعتبر إسرائيل أن أراضي بئر السبع كلها أراضى 'موات' وبالتالي فهي ملك الدولة، وليست ملك أصحابها، وتعتمد إسرائيل على نص المادة 103 من قانون الأراضي (1858) التي تفسر أراضي 'الموات' بأنها: 'الأراضي الخالية، وغير المفتلحة، وأراضي القفر والمستنقعات والجبال وأراضي الغاب، وليست مسجلة بعقد ملكية، وليست مخصصة منذ القدم لمجتمع أو مرعى، وتبعد عن أقرب قرية مسافة يسمع منها صوت عال (مقدرة بـ 2,850 متراً)'.
ولا ينطبق شيء من هذا على أراضي قبائل بئر السبع، في شمال وغرب القضاء. فهي قطعاً ليست خالية إذ كان يعيش فيها حوالى 100,000 نسمة عام 1948. وكل دونم فيها تسقط عليه أمطار تزيد عن 100 ملم/السنة مزروع أو مستغل، كما أكدته الصور الجوية التى أخذتها المساحة العسكرية البريطانية. وهي 'مخصصة' لهم حسب القانون العثماني، إذ لم يسكن فيها أحد غيرهم عبر مئات السنين. أما من حيث سماع الصوت، فلا يوجد في أراضيهم المزروعة والمأهولة، دائرة قطرها 5.7 كم خالية من أي إنسان. أما الأراضي القفر فهي تقع إلى الجنوب من كرنب وعسلوج حتى إيلات أو أم رشرش.
ويكفي هذا الوصف لإثبات عدم انطباق 'الموات' على هذه الأراضي. لكن إسرائيل تصر على إبراز 'عقد ملكية' لإثباتها. وقد ذكرنا أن الملكية في قضاء بئر السبع فردية، وليست قبلية أو 'مشاع'، وتباع الأرض وتشترى من الأفراد، بموجب اتفاقات ثنائية، وبحدود معروفة ومتفق عليها بين الجميع، وبموجب تلك الملكية، دفع الأهالي ضريبة 'العشور' للأتراك وحكومة الانتداب على مدى السنين. ولا يزال بعض الأهالي يحمل إيصالات الضرائب. وتوجد تلك الاثباتات في ملفات الحكومة البريطانية عن فلسطين وعن مصر حتى قبل ترسيم الحدود بينهما.
وتؤكد وثيقة تركية (imms 122/5229) صادرة في 4/5/1891 من مجلس شورى الدولة التركية أن مجلس إدارة اللواء أرسل مأمور الدفتر الخاقاني 'لتحديد وتحرير أراضي كل قبيلة، وقسموا (أي: سجلوا) خمسة ملايين دونم' من مجموع مساحة القضاء التى تتجاوز عشرة ملايين دونم أصحابها ('متصرفيها القدماء بموافقة اللجنة العسكرية الخاصة وأنه بذلك تحققت موافقة المشايخ والعربان') وبلغت رسوم الطابو 1,250,000 قرشاً.
وعندما دخل الصهاينة لاستلام فلسطين من سلطة الانتداب البريطانية عام 1920، تولى هربرت صمويل، الصهيوني اليهودي، منصب أول مندوب سام بريطاني، ومثله الصهيوني نورمان بنتويتش، السكرتير القانوني للحكومة، وأيضاً تولى حاييم كالفاريسكي، المنصب الرئيسي في 'هيئة تسوية الأراضى' الحكومية، وهو مدير 'شركة الاستعمار اليهودي'. وكان تركيزها الأساسي على الأرض، وتحويل ملكية كل الأراضي، ما لم يثبت العكس بشكل قاطع، إلى الدولة لتبيعها أو تؤجرها لليهود.
مع ذلك، فلم يصدر إطلاقاً قرار من حكومة الانتداب أن أراضي بئر السبع المأهولة أراضي موات، بل على العكس أكد صمويل لشيوخ بئر السبع أن 'حقوقهم الخاصة والعرف والعادة الساريتان ستبقى كذلك، من دون تدخل من جانب الحكومة'.
حتى عندما تركت أرض في بئر السبع من دون فلاحة لمدة 3 سنوات، لم تستول عليها الحكومة، كما هو الحال لو كان تصنيفها أرض 'موات' حسب القانون. والقانون الذى وضعه صهاينة حكومة الانتداب عام 1921 (قانون الأرض الموات، الجريدة الرسمية رقم 38) يحظر على أي شخص فلاحة أي أرض موات من دون إذن، بعد صدور ذلك القانون. ومن يفلحها قبل ذلك عليه أن يبلغ السلطات قبل 1 أيار 1921. ولو فرضنا أن أراضي بئر السبع اعتبرت 'موات' (وهذا غير صحيح)، فإن الحكومة البريطانية، في شخص تشرشل، أقرت بحقوقهم في أراضيهم كما هي، في سنة صدور هذا القانون.
لكن إسرائيل، في سعيها الحثيث لنهب أراضى بئر السبع، تجاهلت تلك الحقوق التاريخية، وأصدرت قوانين كثيرة لتخدم أغراضها.
بعد أن طردت الأهالي من أراضيهم في عام 1951، سنت قانون 'الاستحواذ على الأراضي' في عام 1953، بموجبه سمحت لسلطة التطوير استملاك 'الأراضي الخالية في نيسان (أبريل) 1952'. ومن بينها 1,225,000 دونم لمواطنين فلسطينيين موجودين، معظمهم من التياها.
بدأت إسرائيل بفرض الأحكام العرفية عليهم، التي استمرت حتى عام 1966، وأعلنت أن كل أراضيهم هي 'أراضي دولة'. وفي عام 1950 صدر قانون 'نقل الملكية' الذى جعل حكومة إسرائيل وصياً على 'أملاك الغائبين'، وفي 1/4/1952 وكلت 'لهيئة التنمية' الحق في الاستحواذ على كل الأراضي 'الخالية' من السكان. كيف يمكن أن يكون الأهالي القاطنين في مواطنهم من 'الغائبين'؟ وكيف يمكن أن تكون أراضيهم 'خالية'؟ الحل الإسرائيلي هو نقلهم في شاحنات بالقوة إلى مكان آخر قبل هذا التاريخ.
إختارت إسرائيل معزلاً (المعروف باسم 'السياج') في منطقة قاحلة شرق طريق الخليل – بئر السبع – عسلوج ومساحته 900,000 دونم، أي 7 في المئة من مساحة قضاء بئر السبع، وتركتهم فيه، ومنعتهم من مغادرة المنطقة 'لأسباب أمنية' لمدة 16 عاماً.
كيف حدث ذلك؟ يقول تقرير إسرائيلي من ملفات هاشومير هاتساعير (مابام) عام 1953 إنه منذ تأسيس إسرائيل لم تكد تنقضي سنة من دون عمليات طرد وترحيل للبدو من أراضيهم إلى أماكن قاحلة في الشرق، وإخلاء المناطق الخصبة في الشمال الغربي من أهلها. وتمت عملية الترحيل على مراحل وبطرق مختلفة، منها الادعاء أن الترحيل مؤقت، مثلما حدث مع عرب المسعوديين. وفي حالات أخرى أعطيت وعود كاذبة بالتعويض. وفي إحدى الحالات تم ذلك عن طريق الرشوة لأحد الاشخاص من ذوي النفوذ (تم الترحيل ولم تدفع الرشوة). وأحياناً كان الجيش يلجأ إلى القوة السافرة للطرد. وفي كل الحالات تقريباً كانت تسبق عملية الترحيل، عمليات إزعاج مستمرة من الجيش، وعمليات تفتيش وتمشيط متواصلة ليل نهار، وإطلاق رصاص على المواشي وخطفها، والتهديد بقطع التموين، والادعاء أن من بينهم متسللين أو فدائيين أو مهربين، وترويع السكان بسبب ذلك.
ومن العشائر التى طردت خارج إسرائيل بهذه الأساليب، عرب الجراوين، وعرب أبو رقيّق، وعرب أبو كف. وقدم الشيخ حسين أبو كف مطالبة بأملاكه المسجلة في مدينة بئر السبع، فشن الجيش على عشيرته حملة تفتيشية بحجة وجود متسللين بينها، وأجبروها على ترك أراضيها. أما عرب الفراحين (عزازمة) فكانوا يقيمون شمال بير عسلوج وطردوا إلى الشقيب، ثم إلى شرق الأردن، بدعوى أنهم مهربون.
أما قبيلة الصناع، وعلى رأسها الحاج إبراهيم الصانع، فقصتها معروفة من ملفات مراقبي الهدنة، ومذكورة في كتاب هتشنسون 'الهدنة الدامية'. لقد طُردت القبيلة من أرضها في الشريعة إلى اللقيّة ثم إلى تل عراد. فلم يقبلوا بذلك، فطردوا إلى الأردن في أيلول 1952. وبعد تدخل مراقبي الهدنة وإحراج الإسرائيليين، سُمح لهم بالعودة إلى عراد القاحلة، ولم يعودوا إلى أرضهم الخصبة، كذلك طردت اسرائيل 1000 شخص من عرب الجهالين و2000 شخصاً آخر إلى الأردن في شتاء 1949/1950.
وعلى مدى سنوات بين 1949 – 1954 طردت إسرائيل 6,200 شخص من قبيلة العزازمة إلى سيناء في عدة عمليات، كانوا يعودون بعدها إلى ديارهم. والسبب الذى تدعيه إسرائيل لهذا الطرد هو اتهامهم بوضع ألغام على الطريق وأعمال التخريب. وفي أيلول 1953 قامت وحدة 101 مع قوات من مستعمرة كتسيعوت معززة بالطائرات، بقيادة الإرهابى أريئيل شارون بمهاجمة العزازمة، فأحرقت بيوتهم ودمرت ممتلكاتهم وأعملت فيهم مذبحة رهيبة، واحتلت إسرائيل منطقة العوجا المنزوعة السلاح (260,000 دونم) منذ ذلك الحين. وتقول المصادر الإسرائيلية إن 17,000 شخص طردوا من إسرائيل بين 1949 – 1954، والرقم الحقيقي أكبر من ذلك.
وهكذا لم يبق فلسطيني في قضاء بئر السبع إلا وطُرد من أرضه، إما في نكبة 1948 وهم الغالبية، أو بعدها بسنوات قليلة إلى خارج فلسطين المحتلة، أو إلى معزل داخلها في الأرض المحتلة ولكن في غير أرضه. وأصبح هؤلاء لاجئين في بلادهم، على الرغم أنهم 'مواطنون' في دولة إسرائيل، ولم تمنح لهم هويات إسرائيلية إلا عام 1952، لكن ذلك كان بعد نقلهم إلى المعازل وتطبيق 'قانون أملاك الغائبين' عليهم، ومصادرة أراضيهم الخصبة، لإقامة المستعمرات عليها. ولازالت المعركة على الأرض والهوية قائمة إلى اليوم.
وفى عام 1969، صدر قانون إسرائيلي يبطل القانون العثماني بأن وضع اليد يشكل مصدراً لحيازة أرض 'الموات'، ونصت المادة 155 منه أن 'جميع أراضي الموات تسجل باسم الدولة'. وبموجبه صادرت كل الأراضي داخل المعزل (900,000 دونم)، وخارجه (11,600,000 دونم).
حاول بعض الأهالي العودة إلى أراضيهم، بعد انتهاء الحكم العسكرى في عام 1966، والسماح لهم بالخروج من المعزل، وقدموا إلى حكومة إسرائيل أوراقاً ثبوتية بملكيتهم من العهد العثماني، لكنها رفضت عودتهم إلى ديارهم.
ويعيش الآن في بئر السبع 19 عشيرة، يبلغ عددهم اليوم (2008) حوالى 200,000 نسمة، من بينهم 7 عشائر، تعيش على جزء من أراضيها الأصلية، و12 عشيرة، رحّلتها إسرائيل من موطنها الأصلي إلى أماكن أخرى بضعة كيلومترات ما بين 14/4/1948 و 1/5/1952، فأصبحوا لاجئين في بلادهم.
وتسعى إسرائيل بذلك إلى انتزاع الأرض من أصحابها أولاً، تم توطينهم في قرى محصورة ثم تحويل أهلها إلى عمالة رخيصة في المستعمرات اليهودية، بدلاً من أن يمارسوا الزراعة في أرضهم التى يملكونها.
واستولت إسرائيل حتى سنة 1960 على 38 في المائة من الأراضي التي خصصوها للعرب 'احتفالاً بمعاهدة السلام مع مصر' ثم استولت الحكومة على 82,000 دونم من أراضى تل الملح لتحويلها إلى مطار كبير، بموجب 'قانون استملاك أراضي النقب – اتفاقية السلام مع مصر 1980'. ولا ندري ما العلاقة بين مصادرة أرض عربية واتفاقية السلام؟ كما أقيمت ديمونة – المدينة النووية – على 2000 دونم من أرض الهواشلة، واستمر النزاع عليها 15 عاماً ولا يزال مستمراً حتى اليوم. كما صادرت الدولة 45,000 دونم لإنشاء مدينة عراد عليها.
ونظراَ لأن الزراعة هى المورد الرئيس للسكان، فقد 'أجّرت' إسرائيل 100 دونم من أراضي المعزل لكل أسرة من 'اللاجئين'، واستعملت السلطات الإسرائيلية هذا وسيلة للضغط، لمكافأة من يتعاون وحرمان من لا يتعاون. ورفض كثير من السكان توقيع اتفاقات ضمان واستئجار، خصوصاً عندما تكون الأرض ملكهم، لأن الدولة تريد بموجب الاتفاقات تثبيت ملكيتها، وإنكار ملكيتهم لهذه الأراضى المستأجرة.
حتى عام 1979 قدم الفلسطينيون في بئر السبع أكثر من 3220 طلباً لتسجيل أراضيهم، لكن لم يسجل طلب واحد، مع أنه تمت تسوية 22 في المائة منها. وعلى رغم أن إسرائيل تصدر القوانين التى تحلل الباطل كما تشاء، الا أن السلطات وجدت أن الطرق القانونية مكلفة وطويلة، وتثير دعاية سلبية، فلجأت إلى أسلوب الضغط والابتزاز. وفي مجتمع قليل الحيلة والخبرة، واقع تحت رحمة تلك السلطات، تنجح هذه الطرق أحياناً ومنها محاولة إقناع الفلسطيني أن أرضه ذهبت من دون رجعة لمستوطنة إسرائيلية، والأفضل له أن يأخذ شيئاً بدلاً من لا شيء. وتعرض عليه أن يتنازل عن 50 في المائة من أرضه للدولة، ويبيع 30 في المائة منها بتعويض بخس وتسجل له ملكية 20 في المائة فقط. وهذا الحل اقترحته إسرائيل بدعوى 'قانون السلام 1980' وإقامة مطار عسكري في منطقة تل الملح، وهذا الاقتراح معروض فقط لأصحاب الأراضي المطلوبة والدولة في عجلة من الأمر لسلبها، وهو ليس معروضا على سائر المالكين، وهو بالطبع مرفوضٌ جملة وتفصيلاً والغرض منه أساساً هو الحصول على توقيع الفلسطيني بالتنازل عن أرضه، وهو المطلب الأساسى القديم لإسرائيل.
ومع أن إسرائيل لا تعترف بملكية الفلسطينيين في قضاء بئر السبع وتعتبره 'أملاك دولة'، ولا تكترث باعتراف بحكومة الانتداب بملكية الأهالي للأراضي، ولا عيشهم عليها لقرون عديدة، ولا دفعهم الضرائب للحكومة التركية والبريطانية، ولا اعترافهم بملكية الأرض التي اشتروها من العرب قبل 1948، إلا أنها توافق ضمنياً على ملكية الأرض لمن يدخل معها في عقد 'تسوية'. أما إذا لم يوافق المالك على هذه التسوية فإنه من شبه المستحيل الحصول على حقه بواسطة القانون والمحاكم الإسرائيلية.
.................يتبع