محمد الفاتح.. القوة والعدل
بقلم: عبده مصطفى دسوقي
السلطان محمد الثاني العثماني، السابع في سلسلة آل عثمان، يلقب بالفاتح وأبي الخيرات، حكم ما يقرب من ثلاثين عامًا.
ولد محمد الفاتح في (27 من رجب 835 هـ= 30 من مارس 1432م)، ونشأ في كنف أبيه السلطان "مراد الثاني" سابع سلاطين الدولة العثمانية، الذي تعهّده بالرعاية والتعليم؛ ليكون جديرًا بالسلطنة والنهوض بمسئولياتها؛ فأتم حفظ القرآن، وقرأ الحديث، وتعلَّم الفقه، ودرس الرياضيات والفلك وأمور الحرب، وإلى جانب ذلك تعلَّم العربية والفارسية واللاتينية واليونانية، واشترك مع أبيه السلطان مراد في حروبه وغزواته.
تربَّى على يد الشيخ آق شمس الدين، وهو ما أثَّر في تكوين شخصية الأمير الصغير، وبناء اتجاهاته الفكرية والثقافية بناءً إسلاميًّا صحيحًا.
يعتبر السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان، يلقب بالفاتح وأبي الخيرات، حكم ما يقرب من ثلاثين عامًا كانت خيرًا وعزة للمسلمين، تولَّى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده في 16 محرم عام 855هـ الموافق 18 فبراير عام 1451م، وكان عمره آنذاك 22 سنةً، ولقد امتاز السلطان محمد الفاتح بشخصية فذة؛ جمعت بين القوة والعدل، كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثيرٍ من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء، وخاصةً معرفته كثيرًا من لغات عصره، وميله الشديد إلى دراسة كتب التاريخ؛ مما ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال، حتىإأنه اشتهر أخيرًا في التاريخ بلقب محمد الفاتح؛ لفتحه القسطنطينية.
وقد انتهج المنهج الذي سار عليه والده وأجداده في الفتوحات، ولقد برز بعد توليه السلطة في الدولة العثمانية بقيامه بإعادة تنظيم إدارات الدولة المختلفة، واهتم كثيرًا بالأمور المالية؛ فعمل على تحديد موارد الدولة وطرق الصرف منها بشكل يمنع الإسراف والبذخ أو الترف، وكذلك ركَّز على تطوير كتائب الجيش، وأعاد تنظيمها، ووضع سجلات خاصة بالجند، وزاد من مرتباتهم، وأمدَّهم بأحدث الأسلحة المتوفرة في ذلك العصر.
وعمل على تطوير إدارة الأقاليم، وأقرَّ بعض الولاة السابقين في أقاليمهم، وعزل من ظهر منه تقصير أو إهمال، وطَّور البلاط السلطاني وأمدَّهم بالخبرات الإدارية والعسكرية الجيدة؛ مما ساهم في استقرار الدولة والتقدم إلى الأمام، وبعد أن قطع أشواطًا مثمرة في الإصلاح الداخلي تطلَّع إلى المناطق المسيحية في أوروبا لفتحها ونشر الإسلام فيها، ولقد ساعدته عوامل عدة في تحقيق أهدافه؛ منها الضعف الذي وصلت إليه الإمبراطورية البيزنطية بسبب المنازعات مع الدول الأوروبية الأخرى، وكذلك بسبب الخلافات الداخلية التي عمت جميع مناطقها ومدنها، ولم يَكْتَفِ السلطان محمد بذلك، بل إنه عمل بجد من أجل أن يتوج انتصاراته بفتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، والمعقل الإستراتيجي المهم للتحركات الصليبية ضد العالم الإسلامي لفترة طويلة من الزمن، والتي طالما اعتزَّت بها الإمبراطورية البيزنطية بصورة خاصة والمسيحية بصورة عامة، وجعلها عاصمة للدولة العثمانية، وتحقيق ما عجز عن تحقيقه أسلافه من قادة الجيوش الإسلامية.
أمتدحه الشيخ فقال: شهاب الدين الكوراني
فسرت مختفيًا والدهر يتبعني عساه ينصفني من ظلمها جلبي
سلطاننا الباهر الباهي له شرفٌ يسمو على البدر والجوزاء والشهب
محمد أنت فخر القوم قاطبةً سميت بدر السما من أنجم العرب
رياض مدحك أزهار مفتحةٌ وصوت شعري لها كالبلبل الطَّرِبِ
لك البقاء مدى الأيام فوق على وضدك الأبتر المخذول في نصب
محمد الفاتح والقسطنطينية
منذ أن أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبشارة لمن يفتح القسطنطينية وكل المسلمين سارعوا في محاولةٍ لفتحها تحقيقًا لما جاء في بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتفتحن القسطنطينية؛ فَلَنِعْم الأمير أميرها، وَلَنِعْم الجيش ذلك الجيش" (روه الإمام أحمد في مسنده).
وظلت المحاولات منذ الدولة الأموية تتكرَّر لفتحها لكن دون جدوى، حتى كان عهد محمد الفاتح بذل السلطان محمد الثاني جهوده المختلفة للتخطيط والترتيب لفتح القسطنطينية، وبذل في ذلك جهودًا كبيرة في تقوية الجيش العثماني بالقوى البشرية حتى وصل تعداده إلى قرابة ربع مليون مجاهد، وهذا عدد كبير مقارنةً بجيوش الدول في تلك الفترة، كما عُنَي عناية خاصة بتدريب تلك الجموع على فنون القتال المختلفة وبمختلف أنواع الأسلحة التي تؤهلهم للعملية الجهادية المنتظرة، كما اعتنى الفاتح بإعدادهم إعدادًا معنويًّا قويًّا وغرس روح الجهاد فيهم، وتذكيرهم بثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على الجيش الذي يفتح القسطنطينية وعسى أن يكونوا هم الجيش المقصود بذلك؛ مما أعطاهم قوة معنوية وشجاعة منقطعة النظير، كما كان لانتشار العلماء بين الجنود أثر كبير في تقوية عزائم الجنود وربطهم بالجهاد الحقيقي وفق أوامر الله.
وقد اعتنى السلطان بإقامة قلعة روملي حصار في الجانب الأوروبي على مضيق البسفور في أضيق نقطة منه مقابل القلعة التي أسست في عهد السلطان بايزيد في البر الآسيوي، وقد حاول الإمبراطور البيزنطي ثَنْيَ السلطان الفاتح عن بناء القلعة مقابل التزامات مالية تعهَّد بها إلا أن الفاتح أصرَّ على البناء لما يعلمه من أهمية عسكرية لهذا الموقع، حتى اكتملت قلعة عالية ومحصنة، وصل ارتفاعها إلى 82 مترًا وأصبحت القلعتان متقابلتين ولا يفصل بينهما سوى 660 مترًا تتحكمان في عبور السفن من شرقي البسفور إلى غربيِّه، وتستطيع نيران مدافعهما منع أية سفينة من الوصول إلى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقها، مثل مملكة طرابزون وغيرها من الأماكن التي تستطيع دعم المدينة عند الحاجة.
اهتم محمد الفاتح بالجيش والأسطول والتخطيط الجيد والعناية بالعلماء ليكون دافعًا معنويًّا للجنود، كما اهتم بالمعاهدات مع دول الجوار حتى لا تشغله عن فتح القسطنطينية، كما أنه اعتنى بالهجوم.
وصل السلطان العثماني في جيشه الضخم أمام الأسوار الغربية للقسطنطينية المتصلة بقارة أوروبا، ونصب سرادقه ومركز قيادته أمام باب القديس "رومانويس"، ونصبت المدافع القوية البعيدة المدى، ثم اتجه السلطان إلى القبلة وصلَّى ركعتين وصلَّى الجيش كله، وبدأ الحصار الفعلي وتوزيع قواته، ووضع الفرق الأناضولية- وهي أكثر الفرق عددًا- عن يمينه إلى ناحية بحر مرمرة، ووضع الفرق الأوروبية عن يساره حتى القرن الذهبي، ووضع الحرس السلطاني الذي يضم نخبة الجنود الانكشارية، وعددهم نحو 15 ألفًا، في الوسط.
وتحرَّك الأسطول العثماني الذي يضم 350 سفينة في مدينة "جاليبولي" قاعدة العثمانيين البحرية في ذلك الوقت، وعبر بحر مرمرة إلى البسفور وألقى مراسيه هناك، وهكذا طُوِّقت القسطنطينية من البر والبحر بقوات كثيفة تبلغ 265 ألف مقاتل، لم يسبق أن طُوِّقت بمثلها عُدَّةً وعتادًا، وبدأ الحصار الفعلي، وطلب السلطان من الإمبراطور "قسطنطين" أن يسلم المدينة إليه، وتعهَّد باحترام سكانها وتأمينهم على أرواحهم ومعتقداتهم وممتلكاتهم، ولكن الإمبراطور رفض، معتمدًا على حصون المدينة المنيعة ومساعدة الدول النصرانية له.
بعد ما أحسن السلطان ترتيب وضع قواته أمام أسوار القسطنطينية بدأت المدافع العثمانية تطلق قذائفها الهائلة على السور ليل نهار لا تكاد تنقطع، وكان دوي اصطدام القذائف بالأسوار يملأ قلوب أهل المدينة فزعًا ورعبًا.
اهتدى السلطان إلى خطة موفقة اقتضت أن ينقل جزءًا من أسطوله بطريق البر من منطقة غلطة إلى داخل الخليج، متفاديًا السلسلة، ووضع المهندسون الخطة في الحال، وبُدئ العمل تحت جنح الظلام، وحشدت جماعات غفيرة من العمال في تمهيد الطريق الوعر الذي تتخلله بعض المرتفعات، وغُطِّي بألواح من الخشب المطلي بالدهن والشحم، وفي ليلة واحدة تمكَّن العثمانيون من نقل سبعين سفينة طُويت أشرعتها تجرها البغال والرجال الأشداء.
وكانت المدافع العثمانية تواصل قذائفها حتى تشغل البيزنطيين عن عملية نقل السفن، وما كاد الصبح يسفر حتى نشرت السفن العثمانية قلوعها ودقت الطبول وكانت مفاجأةً مروِّعةً لأهل المدينة المحاصرة.
وبعد نقل السفن أمر السلطان محمد بإنشاء جسر ضخم داخل الميناء؛ عرضه خمسون قدمًا، وطوله مائة، وصُفَّت عليه المدافع، وزودت السفن المنقولة بالمقاتلين والسلالم، وتقدَّمت إلى أقرب مكان من الأسوار، وحاول البيزنطيون إحراق السفن العثمانية في الليل، ولكن العثمانيين علموا بهذه الخطة فأحبطوها، وتكرَّرت المحاولة وفي كل مرة يكون نصيبها الفشل والإخفاق.
استمرَّ الحصار بطيئًا مرهقًا والعثمانيون مستمرون في ضرب الأسوار دون هوادة، وأهل المدينة المحاصرة يعانون نقص المؤن ويتوقعون سقوط مدينتهم بين يوم وآخر، وفي فجر يوم الثلاثاء (20 من جمادى الأولى 857 هـ = 29 من مايو 1453م)، وكان السلطان العثماني قد أعد أهبته الأخيرة، بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن أصدرت الأوامر للمجاهدين الذين علت أصواتهم بالتكبير وانطلقوا نحو الأسوار، وخاف البيزنطيون خوفًا عظيمًا، وشرعوا في دق نواقيس الكنائس، والتجأ إليها كثير من النصارى وكان الهجوم النهائي متزامنًا بريًّا وبحريًّا في وقت واحد حسب خطة دقيقة أعدت بإحكام، وكان المجاهدون يرغبون في الشهادة؛ ولذلك تقدَّموا بكل شجاعة وتضحية وإقدام نحو الأعداء، ونال الكثير من المجاهدين الشهادة، وكان الهجوم موزَّعًا على كثير من المناطق، ولكنه مركَّز بالدرجة الأولى على منطقة وادي ليكوس بقيادة السلطان محمد الفاتح نفسه، وكانت الكتائب الأولى من العثمانيين تمطر الأسوار والنصارى بوابل من القذائف والسهام محاولين شل حركة المدافعين.
وفي هذا اليوم فتحت المدينة بعد معارك شرسة، واستطاع السلطان محمد أن يقضيَ على كل الجيوب الدفاعية، وتوجَّه إلى كنيسة آيا صوفيا، وأمر بتحويلها إلى مسجد.
ولقد أحسن محمد الفاتح معاملة النصارى، وقد أعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينيين الذين لهم حق الحكم في القضايا المدنية، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى، ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع.
لقد تأثر الغرب النصراني بنبأ هذا الفتح، وانتاب النصارى شعور بالفزع والألم والخزي، وتجسَّم لهم خطر جيوش الإسلام القادمة من إستانبول، وبذل الشعراء والأدباء ما في وسعهم لتأجيج نار الحقد وبراكين الغضب في نفوس النصارى ضد المسلمين.
بعد إتمام هذا الفتح الذي حقَّقه محمد الثاني وهو لا يزال شابًا لم يتجاوز الخامسة والعشرين- وكان هذا من آيات نبوغه العسكري المبكر- توجَّه إلى استكمال الفتوحات في بلاد البلقان؛ ففتح بلاد الصرب سنة (863 هـ = 1459م)، وبلاد المورة (865 هـ = 1460م)، وبلاد الأفلاق والبغدان (رومانيا) سنة (866 هـ = 1462م)، وألبانيا بين عامي (867- 884 هـ = 1463-1479م)، وبلاد البوسنة والهرسك بين عامي (867- 870 هـ = 1463-1465م)، ودخل في حرب مع المجر سنة (881 هـ = 1476م)، كما اتجهت أنظاره إلى آسيا الصغرى، ففتح طرابزون سنة (866 هـ = 1461م).
جوانب أخرى
لقد اهتم محمد الفاتح بالجوانب الأخرى مثل المدارس والمعاهد, والعلماء والشعراء، والأدباء والترجمة، والعمران والبناء، والمستشفيات والتجارة، والصناعة والتنظيمات الإدارية، والجيش والبحرية والعدل.
وفاته
قاد السلطان حملة لم يحدد وجهتها، لكن المؤرخون يخمنون بأنها كانت إلى إيطاليا، عرض أهل البندقية على طبيبه الخاص يعقوب باشا أن يقوم هو باغتياله، يعقوب لم يكن مسلمًا عند الولادة؛ فقد ولد بإيطاليا، وقد ادَّعى الهداية، وأسلم.
بدأ يعقوب يدس السم تدريجيًّا للسلطان، ولكن عندما علم بأمر الحملة زاد جرعة السم، وتوفِّي السلطان في العام 1481م عن عمر 49 عامًا، وبلغت مدة حكمه 31 عامًا؛ انفضح أمر يعقوب فأعدمه حرس السلطان.
وصل خبر موت السلطان إلى البندقية بعد 16 يومًا، جاء الخبر في رسالة البريد السياسي إلى سفارة البندقية في إستانبول، احتوت الرسالة على هذه الجملة "لقد مات النسر الكبير"، انتشر الخبر في البندقية ثم إلى باقي أوروبا، وراحت الكنائس في أوروبا تدق أجراسها لمدة ثلاثة أيام بأمرٍ من البابا.