المحفزات الاقتصادية لتطرف المجتمع الإسرائيلي
د. صالح النعامي
دلت نتائج الانتخابات الأخيرة في إسرائيل على تعاظم قوة اليمين بشقيه العلماني والديني باطراد. وعادة ما يتم تفسير انزياح المجتمع الإسرائيلي المتواصل نحو التطرف إلى اعتبارات أيدلوجية ودينية،ويتم تجاهل العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي لا يمكن تجاهل تأثيرها في دفع الإسرائيليين نحو التطرف في كل ما يتعلق بالموقف من الصراع مع الفلسطينيين. فبعد حوالي 48عاماً على حرب 67 واحتلال الضفة الغربية،فأن كثيراً من القطاعات السكانية في إسرائيل باتت تعي أن تحقيق مصالحها الاقتصادية والاجتماعية يرتبط باستمرار هذا الاحتلال. ففي الوقت الذي تعاني فيه الأزواج الشابة داخل الكيان الصهيوني من مشكلة السكن،بسبب ارتفاع أسعار الشقق السكنية،الناجم بشكل أساس عن أسعار الأراضي الجنونية،فأن هؤلاء الشباب بإمكانهم العثور على شقق سكنية في ظروف مثالية في المستوطنات المقامة في أرجاء الضفة الغربية،بسبب انخفاض أسعار الأراضي،إلى جانب الدعم الحكومي السخي الممنوح للمستوطنين.فحسب قرارات الحكومات الإسرائيلية المتتالية،فأن الأغلبية الساحقة من المستوطنات تعد ضمن مناطق "الأفضلية أ"،التي تغدق عليها الحكومة المساعدات والمخصصات المالية،إضافة إلى تسهيلات في مجال الضرائب والتعليم، مما أدى الى توجه الكثير من الإسرائيليين الذين وجدوا فيها حلاً للكثير من مشاكلهم. فعلى سبيل المثال،إن كان متوسط سعر الشقة في منطقة وسط إسرائيل يصل إلى حوالي 300 ألف دولار،فأنه بالإمكان الحصول على فيلا في مستوطنة بـ 100 ألف دولار،يتم تسديدها على أقساط طويلة الأمد. ناهيك عن توسع الحكومات الإسرائيلية في الاسثتمار في مجال البنية التحتية في المستوطنات، وهو ما أوجد فائضاً في فرص العمل. وهكذا تحولت المستوطنات المقامة في الأراضي المحتلة إلى منطقة لجذب أبناء الطبقات الفقيرة في المجتمع الإسرائيلي، وتحولت هذه المستوطنات إلى جهاز لتعويض الشرائح الفقيرة عن الأضرار الناجمة ارتفاع كلفة الحياة. ونظراً للثقل الكبير الذي يلعبه المستوطنون في الحياة السياسية والعامة في إسرائيل،فلم يعد الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة يمثل الخلاص من الفقر فقط،بل يعتبر بوابة للانضمام للنخبة الجديدة التي تبلورت في المجتمع الإسرائيلي.وهكذا فتحت المستوطنات نافذة الفرص أمام الشرائح الدنيا للحراك الاجتماعي والاقتصادي.
وفيما يتعلق باتباع التيار الديني الحريدي،فقد يكتشفوا،وإن كان في وقت متأخر،العوائد الاقتصادية للاستيطان في الضفة الغربية،بل وبشكل أساس،عوائده الاجتماعية أيضاً. فكما هو معروف، فلم يظهر التيار الديني الحريدي حماساً للإقامة في المستوطنات التي أقيمت على الأراضي المحتلة بعد عام 67،وظل أتباعه حتى مطلع ثمانينيات القرن الماضي يقيمون بشكل أساسي في القدس ومدينة "بني براك"شمال شرق تل أبيب. لكن نسبة الولادات العالية لدى هذا التيار (متوسط عدد افراد العائلة عشرة أفراد)،والحاجة الماسة إلى وجود وسط اجتماعي متجانس،دفع أتباع هذا التيار لاكتشاف مزايا الإقامة في مستوطنات خاصة بهم في أرجاء الضفة الغربية. فقط منحت المستوطنات المقامة في الضفة الغربية أتباع التيار الحريدي بيئة مناسبة تلائم توجهاتهم الانعزالية في ظل أدنى مستويات الاحتكاك مع المجتمع العلماني. من هنا فليس من المستغرب أن تكون أربعة من أصل ست مستوطنات يهودية تحولت إلى مدن في الضفة الغربية هي مستوطنات يقطنها المتدينون الحريديم، وهي: عموانئيل، كريات سيفر، معاليم إفرايم وبيتار عليت.
وبشكل عام فقد وفر تواصل الاحتلال للأراضي المحتلة مصدراً لتعزيز الأوضاع الاقتصادية لقطاعات كبيرة في المجتمع الإسرائيلي. فقد ضمن بقاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وحالة الحرب المتواصلة ازدهار الصناعات العسكرية الإسرائيلية التي تشغل عشرات الآلاف من الفنيين والخبراء والموظفين، فمتطلبات الأمن الناجمة عن بقاء الاحتلال وحالة الحرب أدى إلى دفع مجمعات الصناعات العسكرية الإسرائيلية إلى التوسع في الإنتاج العسكري والأمني وتطويره كماً ونوعاً، مع كل ما يرتبط بذلك من توظيف طاقات بشرية كبيرة، فمئات الآلاف من الإسرائيليين يدينون للاحتلال في حصولهم على عمل في ظروف ممتازة، فحوالي 100 ألف إسرائيلي يعملون في الصناعات العسكرية، ويختار عشرات الآلاف من الإسرائيليين مواصلة الخدمة النظامية في الجيش والأجهزة الاستخبارية والحصول على رواتب مغرية. وحتى عندما يتقاعد هؤلاء فإن نوافذ الفرص تفتح أمامهم، حيث يتنافس القطاع الخاص على استقطابهم. من هنا فإن التوصل لتسوية سياسية للصراع سيؤثر تأثيراً سلبياً على الواقع المهني لهؤلاء وأسرهم.
ومن الواضح أن القطاعات السكانية التي استفادت اقتصادية واجتماعياً من الاحتلال أصبحت ترى في منطلقات اليمين ضمانة لمواصلة الحفاظ على مصالحها،حيث ارتبط التحول "الإيجابي" في حياة المنتمين لهذه القطاعات بتواصل الاحتلال. وهذا ما يفسر رفض هذه القطاعات للتسوية السياسية للصراع، على اعتبار أنها ستكون مرتبطة بتفكيك المستوطنات أو بعضها، أي أن التسوية السياسية للصراع ستؤدي حتماً إلى انهيار منظومة المزايا الاقتصادية والاجتماعية التي تتمتع بها.
ولقد فسرت الفئات الدنيا في إسرائيل انتقاد بعض أوساط اليسار للمشروع الاستيطاني في الأراضي العربية المحتلة على أنه محاولة من قبل الطبقة الوسطى لوضع الحواجز أمام الفرص التي منحها إياها الاحتلال، ومن أجل تعميق واقع اللامساوة على أساس إثني داخل إسرائيل . من هنا،وبدلاً من أن يتناول الجدل الإسرائيلي الداخلي قضية الاستيطان من زاوية تأثيره على مستقبل التسوية، فإنه قد تم ربطه بالاستقطاب الإثني الطبقي، وهذا ما أثر على طابع القضايا المطروحة في الانتخابات.
ومن الواضح أن الذي يغلب الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية كعامل جذب للصهاينة للاستيطان في الضفة هو تحسن الأوضاع الأمنية بفعل تعاون السلطة والأجهزة الأمنية التابعة للسلطة. وهنا نذكر ما نقلته "معاريف" الأحد الماضي عن ضباط كبير في قيادة المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال،الذي قال:"أبو مازن هو أم عامل استقرار للأوضاع الأمنية في الضفة، أنه يقدس التعاون الأمني معناً قولاً وفعلاً".
https://naamy.net/news/View/1363/#.VT24KKbML71