الأوفياء للقتله واللصوص
مقال قرأته فى الأهرام اليوم الجمعه 5 مايو 2011
صافى ناز كاظم
برافو إلهام شاهين؛ أنت لا شك صادقة مع نفسك، وطبعا من كامل حريتك أن تتعاطفي مع اللصوص والقتلة. لست وحدك اطمأني، ففي الديموقراطيات لابد أن نجد قلة منحازة ضد مصالح الشعب؛ غير آبهة لآلامه وغير مدركة لجبروت القهر الجاثم على صدره، وإن أدركت فهي مستهينة به. لاعليك فلن يغضبنا هذا التّبلد على العكس نفرح لأن الغالبية نجت من هذا العمى!
تذكر لنا صفحات التاريخ من صاحبوا الجبارين والمستبدين والطغاة والذين يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، وبرروا أفعالهم، ومنهم من صفقوا إعجابا بمذابحهم ونعتوها بالرائعة، بل كان هناك من لاموا الضحايا وانزعجوا من آهاتهم وتقززوا من جراحهم واتهموهم، في لحظات القصاص من ظالميهم، بالحقد والغل والتشفي وسوء الأدب الذي لم يراع أن العين لا تعلو على الحاجب، ولم يتوقعوا حقيقة أن العين تعلو على الحاجب عندما تتورم، فما بالنا بمشاهد الضحايا الشهداء الأحياء، أبناؤنا أكبادنا أطفالنا، الذين كانت عيونهم هدفا تحدد مقصودا لرماة جبناء أطلقوا قنصا الرصاص، خاضعين عبيدا لتعليمات سلطة آمرة أعجبها، مع الإعدام الجماعي لشعب أعزل يمارس حقه في الإحتجاج السلمي، أن توسع عيونه قلعا وفقعا وخزقا.
من هذا المسؤول عن مرض حب الطغاة؟
"قلبي يكمخ الشاي مثلك يا قوري"، هذا مطلع أغنية تراثية من أغنيات الشعب العراقي ومعناه: قلبي، من اشتعاله، يسوي الشاي مثلك يا إبريق. وقبل أن أكتب
"إبريق" كدت أقول "براد"، فنحن في مصر نسميه
"براد شاي"، نعم: الناس "تسخن الشاي" ونحن
"نبرده"، وأنا أتمنى أن أفلح في تبريد ما يشتعل في قلبي من ألم وحسرة وغيظ بسبب هؤلاء الذين رأوا أنه من
"الإنسانية" أن "يبقششوا" على اللصوص والقتلة من جيب الضحايا، وما دام المثل القائل "كبّب، سقّي، كُل يا مدهي" لا يزال هو المرشد في لغط المتكلمين فلماذا لا تعلو صيحات الصخب، من أمام ماسبيرو وميدان مصطفى محمود،المنادية بضرورة عودة المستبد الجزار بدعوى أنه الدواء الناجع لقهر الفوضى، ولم شمل الأمة وانضباطها في زنزانة الخوف؟
الغريب الذي رصدته أن من سالت دموعهم مع اجراءات القصاص كانوا ينتحبون افتقادا لـ"قسوة الجلاد". أجل! إنه "المرض": مرض حب الطغاة!
تأملوا معي المعاني التي تغنى بها كبار مطربينا، وعلى رأسهم أم كلثوم وعبدالوهاب، تأملوا معي أغنية تدور مدلولاتها حول: "لي لذة في ذلتي وخضوعي/ وأحب بين يديك سفك دموعي"، وكانت من أشهر أغنيات أم كلثوم في مطلع القرن العشرين، وتابعوا القائمة الطويلة والتراث المتراكم من أغنيات وأشعار الحب المتسول الخانع الذي يرفع شعارا غناه عبدالوهاب: "أحبه مهما أشوف منه ومهما الناس قالت عنه. بيظلم فيّ وبحبه وده قاسي عليّ وبحبه.آه.آه.آه.أنا أحبه". وحين يخطر ببال مشمئز من هذا الانسحاق أن يقول: "حبّك برص"، يطلع من يعود بعبد الوهاب يرد مؤكدا: "مولاي وروحي في يده/ قد ضيعها سلمت يده."، وتزاحمه من تقول: "يا لايمين في الهوى حوشوا الملام عني".
ولأن أم الكلثوم هي قمة الغناء والطرب، فقد يجوز لنا أن نحملها مسئولية إشاعة مرض حب الطغاة، فلقد أبدعت، من بدايتها إلى نهايتها هي ومؤلفوها وملحنوها في تزكية ذلك الاتجاه المؤدي إلى الابتلاء بحب الظالم، المفتري، الوغد، الذي يمسح بالمغرمين البلاط ويعصرهم ويرميهم في الجردل، ثم يسعّف بهم السقف - بصفتهم رأس عبد - ويملؤهم بالعناكب ومع ذلك يغنون خلفها بتناحة: "صعبان علي أقول لك كان والحب زي ما كان وأكتر/ وأفكرك بليالي زمان وأوصف في جنتها وأصور. أيام ما كنا احنا الاتنين: إنت ظالمني وأنا رااااااااضي!"، وحين يحاول أحدهم أن يستعين بعبد الوهاب: "أوعى يا قلبي تكون حنيت للي شكيت منه وبكيت."، تأتي أم كلثوم بالحجة: ". إنت العذاب والضنى والعمر إيه غير دول؟"، ويستسلم القطيع لمصاص الدماء النموذج في أغنية: "يا للي كان يشجيك أنيني. كل ما اشكي لك أسايا"، ومع هذه الاستكانة المروعة، لهذا الذي يشجيه الأنين، تصهلل أم كلثوم: "عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك.؟"، ومعها جماهير السرادقات الذين وقعوا في براثن حب القتلة والسفاحين يواصلون التلذذ بجعير غليظ: "كان منايا يطول حنيني. للبكا وإنت معايا"!