عصر يوم من أيام الصيف، وكان يوم خميس، فوجئت بجدتي تطلب مني الاستعداد لمرافقتها في رحلة إلى كرم تين على شاطئ البحر بين معسكر النصيرات ومدينة غزة، والصيف في تلك المنطقة من فلسطين (قطاع غزة) مماثل له في شمال سيناء وبخاصة في رفح والعريش ..
كانت الرحلة إلى كرم واحد من أبطال الفدائيين الذين يشار لهم بالبنان في كل القطاع .. وكان من أكثرهم جرأة وأشدهم فتكا باليهود .. وله وقعات مشهودة معهم .. حتى ان مجرد ذكر اسمه أمام أي من اليهود من سكان المغتصبات القريبة من قطاع غزة وحتى تلك الواقعة بين القطاع والضفة كان كفيلا بأن يجعل الأرض تميد تحت قدميه ..
ومن أجرأ عملياته تلك التي عاد فيها من فلسطين المحتلة يقود جرارا (تراكتور=محراثا) أوقفه أمام بيته طويلا ..
ركبت في الجيب الويليز بجوار الفدائي القائد يوسف النباهين، فيما ركبت جدتي وأم اسماعيل (رئيسة الحكيمات) وابنتها الصبية ملك، كانت جدتي قد دعتهما إلى تلك الرحلة الشيقة ..
وكانت جدتي داية عائلته رحمه الله، وهو تجمعه وبعض رفاقه الفدائيين صداقة حميمة بوالدي رحمه الله، من هنا أتت دعوته الكريمة عبر والدي فيما أذكر..
انطلق بنا الجيب ميمما شطر شاطئ البحر، وقد عبر وادي غزة الذي يكون جافا خلال الصيف، ما هي إلا هنيهات إلا وقد وصلنا وتوقف الجيب أمام بيتا بسيطا في الكرم بالقرب من شاطئ البحر ..
نزلنا حيث وجدنا زوجة الرجل في استقبالنا بالترحاب والحفاوة البدوية المعروفة .. فيما كنا نلج إلى داخل البيت وقف يوسف يودعنا ويوصي زوجه بنا خيرا على وعد أن يرجع لاصطحابنا في طريق العودة قبيل ظهر اليوم التالي ..
كان يوما من أيام العمر التي لا تنسى، فقد انطلقت متشوقا في كرم التين ألتقط ثمراته بجهالة -هجين وقع في سلة تين- فما بالكم في كرم تين
لم تطل بي الجولة حتى عدت مولولا من آلام مبرحة في عيني، فقد فركت عيني بيدي التي كانت قد تلوثت بالحليب الناجم عن قطع ثمار التين، ويا ويلي .. نار ياحبيبي نار -لم يكن قد غناها عبد الحليم بعد- قدموا لي ماءا غسلت به يداي أولا ثم عيناي اللتان احمرتا وتورمتا من أثر البتاع المهبب اللي بينزل من شجرة التين عند مجرد خدشها أو قطع ثمرة وبخاصة عندما لا تكون ناضجة ..
لا أذكر ما كان على العشاء .. لكنه كرم الوفادة البدوي والحفاوة الخاصة بضيوف فوق العادة طبعا ..
في تلك الليلة لم نستطع النوم من صوت هدير البحر المتواصل، وهو أمر لم نعهده من قبل، فمعسكرنا على الجانب الغربي من المنطقة الوسطى بالقطاع، قريبا من المنطقة الحرام الفاصلة بين قوات الجيش المصري والجيش الصهيوني ..
في الصباح الباكر انطلقنا جميعا إلى شاطئ البحر .. من أجمل الشواطئ في العالم، إذ عليك أن تجتاز سوافي (كثبانا) رملية ذهبية اللون، لم تطالها ملوثات الحضار الحديثة بعد ..
غير بعيد عن مياه البحر .. قمت باستعمال يدي لأحفر حفرة بطول ذراعي كي أصل إلى مياه غاية في العذوبة .. وسعت الحفرة وعمقتها لنتمكن من انتشال ما نحتاجه من ماء للشرب .. فهذه من مزايا الشاطئ في كثير من مناطق القطاع ..
لم نشعر بالوقت حتى كانت الظهيرة .. ولم يأتي يوسف النباهين ليقلنا في سيارته الجيب في طريق العودة .. تحسبا لضياع الوقت .. قررت النسوة الانطلاق سيرا على الأقدام، إذ يجب أن نصل إلى "البريج" قبل حلول الليل ..
كانت رحلة لذيذة، لم يعكر صفوها سوى إحساسنا بالعطش خلال الطريق فقطفنا بعضا من عناقيد العنب من أحد الكروم والتهمناها ظنا أن العنب ييروي ظمأنا .. وتابعنا المسير .. ولم يمض سوى وقت قصير حتى تبينا سوء فعلتنا بأكل العنب، ازددنا ظمأً .. وكنا قد قطعنا شوطا جيدا لكننا مازلنا في منتصف الطريق .. واليوم جمعة، لم نجد احدا في الكروم ليسقينا ماءا ..
لم يكن أمامنا سوى متابعة السير قدما صوب معسكر البريج .. وكلما سرنا تلفتنا خلفنا عل يوسف أن يدركنا وينقذ الموقف، لكن دون جدوى ..
أول بيت وصلناه كان لآل عكيلة، وكان منفردا خارج المعسكر وكأنه قد وضع هناك لنجدتنا في ذلك اليوم .. وكان الطريق كله عبر الكثبان الرملية حيث تزداد المشقة في المشي .. ولا تصلح الأحذية في اجتياز الرمال الناعمة ..
وصلنا جميعا حفاة مغبرين وقد تدلت ألسنتنا من شدة العطش، ارتمينا أمام الباب فيما انطلق أهل البيت ليجلبوا لنا أكسير الحياة .. صدق الله العظيم "وجعلنا من الماء كل شئ حي"..
كانت رحلة لا تنسى حقاً..