المحاكمات الأهم التي طاولتني كانت بسبب التصريحات والمواقف التي أعلنتها في اجتماع شعبي في أم الفحم تأييدًا للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية. وبالطبع، كانت هناك محاكمات بتهمة زيارة دولة عدو. إنها قصة مطوّلة، وملفها أطول. وعلى الرغم من ذلك، بقيت أصرّ على الزيارات، واعتبرت ذلك إنجازًا. (ترافع في المحاكمات محام صديق، توفي في أثناء وجودي في المنفى، هو رياض أنيس، عضو المكتب السياسي في التجمع، وشاركت جمعية «عدالة» ومحامون آخرون في الدفاع عني وعن التجمع أزاء محاولات منعه من خوض الانتخابات بهذه التهم). نحن قمنا بأمر مميز ومختلف عن زيارات التطبيع. كان هذا تواصلًا فلسطينيًا خارج سياق التطبيع والسلام، ومن دون إذن إسرائيل، ومن دون جواز سفر إسرائيلي. وراحت إسرائيل تحاول عرقلة الزيارات وتهدد المسافرين، ومعظمهم من مواليد ماقبل عام 1948، لكنهم لم يكترثوا كثيرًا للتهديدات. وبالتدريج والتواتر، صارت لي صداقات لا حصر لها في سورية، وتعرفت إلى كثير من المثقفين المؤيدين والمعارضين الذين كانوا يحضرون إلى الفندق لمقابلتي، أو إلى الندوات لسماع المحاضرات. وفوجئوا عندما وجدوا أنني مطّلع على ما يجري في سورية بالتفصيل. لكن اعتباراتي كانت مختلفةً بصفتي من فلسطين، ولا أستطيع التدخل في الشأن السوري مباشرة. لكن هذا لم يمنعني من التعاطف معهم، خصوصًا المعارضين السوريين الذين خرجوا من السجون، وبعض الكتاب المعارضين. وتطورت صداقة شخصية حقيقية مع فاروق الشرع الذي أعتبره رجلًا مستقيمًا، وهو عمل في السياسة الخارجية، ولم يشتغل في السياسة الداخلية. وهو، في أي حال، مسؤول جزئيًّا عن سلوك النظام. ولكن، كانت لديّ نزعة لفصل الشخص عن السياسات العامة. والحقيقة أننا، في القضايا السياسية الخارجية، لم نختلف، وهو لم يكن يدافع عن القمع على الرغم من دفاعه عن النظام والرئيس الأسد بقوة. وعندما كنت أتحدّث إليه عن القمع في سورية، لم يكن يبرّره أو يدافع عنه، بل كان يلمح، أحيانًا، بكلمةٍ من هنا أو كلمة من هناك إلى عدم رضاه، علمًا أن له ولاءً مباشرًا للوطنية السورية التي كان منصب الرئاسة في مركزها، وهي صفة من صفات جيله من البعثيين الذين شهدوا الصراع على السلطة في داخل حزب البعث وبين الأخ وأخيه. ومن الواضح أنه كان مخلصًا لحافظ الأسد. وكانت بعض الأجهزة الأمنية تواجهه بتصريحات أنتقدُ فيها، ولو بشكل مخفّف، سورية، فكان يدافع عني.
• عبّر عن ذلك في كتابه «الرواية المفقودة»[8].
نعم. وكانت هناك علاقات أخرى؛ فقد تعرّفت إلى آصف شوكت الذي امتلك شهامة لافتة في علاقته بي. لكنه كان ينفذ أوامر النظام في علاقته بالشعب السوري، وكان على رأس جهاز أمن قمعي. طبعًا لم نتفق سياسيًا، ولم نرتّب أي أمور سياسية. وساعَدَنا بهجت سليمان كثيرًا ولا سيما في المرحلة الأولى، ولاحقًا بصفته سفيرًا في الأردن. وأنا أتحدث هنا عن الحقائق، لا عن الدوافع والسياسات. في الحقيقة لم يقصر السوريون معي، وكانوا لطفاء جدًا وتعاملوا معي ضيفًا مرغوبًا فيه، وكانت الأبواب كلها مفتوحة أمامي بشكل ندر أن حصل مع أي صديقٍ لسورية، بمن في ذلك قادة الفصائل الفلسطينية وغيرهم، ولم أشكُ من شيء في هذا المجال. ولا علاقة لموقفي اللاحق من الثورة السورية بكيفية تعاملهم معي إطلاقًا. ولو كانت الأمور مرتبطة بالبعد الشخصي والعلاقات الشخصية، لاتخذت موقفًا مؤيدًا للنظام. لكن وقوفي إلى جانب الثورة السورية قضية مبدئية تمامًا، ولو لم أكن مبدئيًا لتمسّكت بهذه العلاقات الشخصية التي تضمنت تمجيدًا لي في التلفزيون والصحف السورية. وحُصرت المقابلات من الداخل بعزمي بشارة وحده الذي أصبح مرجعًا في قضية فلسطين. كان ثمّة مبالغة في التقدير والتبجيل، والمبالغات تؤدي إلى الغيرة والحسد، وهي قائمة في مجتمعنا. وفي هذا الجانب، لم تكن لدي مشكلة في سورية، وكنت أتعامل مع الرئيس بشار الأسد مباشرة، ولم أكن آتي إلى سورية كما يأتي عملاء النظام السوري، وكانت العلاقة على أعلى المستويات. وأعتقد أنني أفدت السوريين بالمشورة، وهم أرادوا أيضًا علاقةً مع مثقف ومناضل يحظى بصدقية، وتشغله أمور أخرى، فكرية وفلسفية، لا علاقة لهم بها. أما القضايا الداخلية السورية، فقد كانوا يستمعون إلى ملاحظاتي بمنتهى الأدب، ويوافقون أحيانًا على ما أقول، ويتذرّعون بأخطاء الأفراد والوزارات أو ثقافة المجتمع، وفي حالاتٍ أخرى لم تلق هذه الملاحظات موافقتهم. ومن الواضح أنهم في تلك الحالة اعتقدوا أنني لا أفهم الشأن السوري الداخلي، وأن قواعد الحكم في سورية مختلفة عما يتوقعه شخصٌ مبدئي، وربما اعتقدوا أنني حالم ومثالي. لا أدري. المهم أنني حاولت بناء علاقة تخدم القضايا المشتركة بيننا، وبطبيعة الحال هذه القضايا المشتركة ليست العلاقات المصرية - السورية، أو خطط التنمية السورية، وإنما ما نستطيع أن نساهم فيه في الصراع ضد إسرائيل أخذًا في الاعتبار اختلاف مهمات العرب في فلسطين 1948 عن مهمات الدولة السورية. أستغرب مواقف بعض المثقفين أو السياسيين أو المناضلين الذين تغيّرهم العلاقات الشخصية مع السلطة أينما كانت، فتصبح هذه العلاقة منطلقًا لتبرير سياسات هذه الأنظمة، ثم الدفاع عنها، ثم الدعوة إلى تطبيقها بقسوة أكبر. وبطبيعة الحال فإن مواقفهم الجديدة تكون نقيض أفكارهم ومبادئهم. المهزلة الأكبر هي عندما يبررون عدم اتخاذهم مواقف بحكم المودة بينهم وبين السلطة. وبعضهم كان يبحث باستمرار عن فرصة للتقرب من هذه السلطات.
• أعرف أنك طالبت بإطلاق سراح بعض المساجين من أعضاء المعارضة السورية.
تحدثت عن أحوال بعضهم، ولم أنجح طبعًا. لكن في حالات الاعتقال القصير، أو قبل الحكم بالسجن، كانت الاستجابة أكبر. وتوسطت لإطلاق سراح بعض المساجين الفلسطينيين قبيل عيد الأضحى. وقلت حينذاك لياسر عرفات: «هذه الهدية لك»، وهي لم تكن موجهة إليه إطلاقًا. ولكن كي أقرِّب عرفات من القيادة السورية، قلت له إن هذه «الهدية هي لك». وكنت أحرص على أن أزوره في غزة أو رام الله بعد كل زيارة لسورية، وكان سعيدًا بذلك. وأعتقد أني ساهمت في التقريب بينه وبين الرئيس بشار الأسد. كنت أرى أن التقريب (واعيًا أن كثيرًا من الخصومات العربية - العربية لها بعد شخصي وليس سياسيًا) بينهما سوف يساهم في تحسين أوضاع الفلسطينيين، خصوصًا عندما اتضحت الصورة عندهم أن اتفاقات أوسلو لن تحقق أي شيء، وأنهم لا يستطيعون أن يستغنوا عن عمقهم العربي. لكن الأمر كان متأخرًا بسبب حصار ياسر عرفات اللاحق في مبنى المقاطعة في رام الله. وفي أي حال، استطعنا إطلاق سراح مجموعة كبيرة من الفلسطينيين. لكن هذا ليس مدعاة فخر. فإذا لم يطرح المثقف والديمقراطي مثل هذه الموضوعات، فهناك خلل في مبدئيته.
• إنه واجب دائم أو كما يقول الإسلاميون:«فرض عين».
صحيح. كنت أتحدّث عن الاقتصاد مع الرئيس الأسد، وأتحدّث عن قضايا الحريات، لكنه قلما استجاب لملاحظاتي، وأحيانًا كان يستجيب لي في قضايا فردية، وفي بعض الحالات كان يستجيب للنصائح التي لا علاقة لها مباشرة بالحقوق السياسية والحريات، مثل تخلّف الإعلام السوري، وتوجه السوريين إلى الإعلام اللبناني، وخطر ذلك في تعميق الطائفية في المجتمع السوري، وطريقة شرح الموقف السوري من القضايا الخارجية. هنا كان يستجيب، لأنها مسألة تتعلق بنجاعة إدارة النظام والدفاع عنه. كان يستجيب أيضًا لكل ما يخدم النظام. ومن الواضح أنه كان متمسّكًا بطريقة الحكم السلطوية الفردية، ومستعدًا للانفتاح اقتصاديًا مع الإبقاء على سلطوية سياسية من النمط التونسي في زمن زين العابدين بن علي، وهذا ما اكتشفته في أثناء لقاءاتي الكثيرة معه.
• اجتمعت إليه ربما عشر مرات. حسنًا، ما هو الانطباع الذي كوّنته عنه؟
إضافة إلى ما أشرت اليه في الإجابة عن السؤال السابق ورؤيته للحكم في سورية واهتمامه بتحسين
الإدارة وتنجيع بيروقراطية الدولة، فأعتقد أنه ذكي، خلافًا لما يقال عنه، وهذا ليس حكمًا معياريًا بل حقيقة في رأيي، وشديد التهذيب في التعامل الشخصي. أما الحكم المعياري فهو أن هذا الشخص المهذب كان ديكتاتورًا مستبدًا، وأصبح طاغيةً سفاحًا.
لا قيمة لكلام الناس الذين لا يعرفون الأشخاص... وتعليقاتهم في هذا الميدان فارغة. بشار الأسد على المستوى الشخصي ذكي، لكنه غير مثقّف، وهو يعترف بذلك. ثم إنه لا يهتم بالمثقفين، بل يهتم أكثر بالتقنيين، ويعتبر المثقفين ثرثارين ولا يساوون شيئًا، حتى أولئك الذين يصنفون أنفسهم رجال النظام. ولا أريد أن أنقل رأيه في بعض المثقفين المحيطين حاليًا بالنظام (فأنا لا أستغل لقاءات يفترض أنها كانت خاصة ولا أنقل منها كلامًا)، وهو يؤمن أن الثقافة عمومًا إذا لم ترتبط بمعلوماتٍ تقنية لا تساوي شيئًا، ويرى في المثقفين مجرد وجع رأس. لذلك لا يحبهم، ولا يقرأ الكتب، ويصرّح بذلك، ويقرأ تقارير الأجهزة وتقديرات للمواقف السياسية. وهو بذلك لا يختلف عن الكثير من السياسيين وقادة الدول. وقد قال لي بنفسه غير مرة إنه لا يقرأ كتبًا، ولا أعتقد أنه يختلف في ذلك عن كثير من قادة الدول.
• ربما كان على حق في موقفه من المثقفين المحيطين به.
على الأرجح. لكنني اكتشفت جوانب أخرى فيه لاحقًا، فهو لا يبخل بالوقت. فالاجتماعات إلى زعماء الدول العربية لا يدوم الواحد منها أكثر من نصف ساعة، أو ساعة على الأكثر. أما الاجتماع إليه فيدوم ساعتين أو ثلاثًا على طريقة والده. وهو مستمعٌ جيد، بمعنى أنه يسأل ويُصغي إلى الإجابة فعلًا. في البداية، اعتقدت أنه يمكن التأثير فيه كشاب يحاول أن يتميز، وأن يبرهن أنه وصل إلى الحكم لا بالوراثة، بل لأن لديه ما يميّزه مثل الإصلاح ومكافحة الفساد. ثم تبين لي أن المقصود استبدال نخبة النظام القديمة بأخرى شابة وأكثر فسادًا، وأنه لا يبدي حساسية زائدة لآلام الناس ومعاناتهم. بدأت ألاحظ ذلك بقوة، بعد أن تجاوز أزمة لبنان عقب مقتل رفيق الحريري، وكان ذلك حوالى عام 2007. وخلافًا لحافظ الأسد، لم يكن عصاميًا، بل كان ابن رئيس محاطًا بأبناء السياسيين وقادة الأجهزة الأمنية ورجال الأعمال. فاق مستوى الفساد في عهده ذاك الذي كان في عهد والده، مع أنه كان يؤكد لنا أنه قضى على الفساد ما إن أبعد النخبة القديمة. لكن النخبة المحيطة بنظامه كانت أكثر فسادًا وأكثر فجورًا في إظهار الفساد.
• ماذا تتذكّر عن علاقتك بحافظ الأسد؟
لم تكن لي علاقة ثابتة به. ولقاؤنا لم يكفِ لتشكيل انطباعٍ، أو كي يسمى علاقة. كان مهتمًا بالتاريخ، وكان صوته هادئًا وعميقًا، ذكّرني بكبار السن، أو الجدود في بلادنا (وأحيانًا ذكّرني بصوت مارلون براندو في فيلم «العرّاب»). كان يريد أن يفهم ما يجري في إسرائيل، ويريد أن يفهم كيف أرى العالم العربي، وكيف أرى مصر من إسرائيل، وكيف أقوّم الأردن، وإلى أين تتجه أميركا. وأعتقد أن أهم ما ميزه هو واقعيته السياسية. ولم يغب لحظة واحدة عن ذهني أني أمام دكتاتور قاسٍ جدًا في التعامل مع أي معارض.
• لكن بشار الأسد مختلف تمامًا عنه كما يلوح لي.
نعم. مختلف.
• إنه شاب في نهاية المطاف مقارنة بأبيه.
هذا صحيح. لكن حكمه لا يلائم عصره. حاولت أن أميّزه من السياسيين من أبناء جيله في العالم العربي أمثال جمال مبارك وملك الأردن عبدالله الثاني وملك المغرب محمد السادس، وحتى سيف الإسلام القذافي. كان ثمة جيل صاعد من أبناء الرؤساء في تلك الفترة، بعد أن تحوّلت جميع الأنظمة الجمهورية كلها إلى وراثية. غير أنني اكتشفت أن هناك شيئًا يجمع قادة الجيل الثاني التي ترث الحكم عن آبائها أو ترث الحكم في بلدانها، هو أنهم ليسوا عصاميين، خلافًا لآبائهم. كان كل منهم ابن أحد الزعماء العصاميين. أما أبناء الجيل الثاني فهم يستندون إلى معادلة دقيقة بين تمثيل استمرارية الجيل الأول ومحاولة التميز منه. إنهم يعتمدون في شرعيتهم على الأب وينكرون ذلك بادعاء أنهم جاءوا إلى الاصلاح والتغيير أو غيره. جميعهم جاءوا إلى الحكم تحت شعار الإصلاح، كأن لديهم ما يميزهم من آبائهم. إنها حاجة نفسية على ما يبدو كي لا يقال إن هذا الرئيس وصل إلى الحكم بفضل أبيه.
• قدّموا أنفسهم أصحاب مشروع تحديثي جديد.
رفع الجيل الجديد من الحكام في المنطقة العربية بمن فيهم الذين كانوا يهيئون أنفسهم للحكم، كما هي الحال في ليبيا ومصر واليمن، شعار الإصلاح. كان الحديث عن الإصلاح سمة المرحلة منذ نهاية التسعينيات وبداية القرن الحادي والعشرين، إضافة إلى أنها كانت إحدى النقاط الرئيسة على جدول أعمال
الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط (2000-2005). كما أن الإصلاح استُخدم بتوسع في سياق الصراع مع الحرس القديم في سبيل الوصول إلى الحكم مع نخبهم الجديدة الموالية لهم، ولإيجاد تبرير وصولهم إلى الحكم بمخاطبة قضايا تحظى بشعبية، وللخروج من عباءة الوالد لاحقًا. وفُسّر هذا الصراع كأنه صراع بين محافظين وإصلاحيين، أو بين حرس قديم وإصلاحيين، مع أن الأمر لا علاقة له بذلك. هم استبدلوا فئة من الضباط والعسكريين الذين رافقوا آباءهم بفئة أخرى فيها رجال أعمال من دون أن يمس ذلك بنية النظام في جوهرها، أو دور أجهزة الأمن في داخل النظام. وهذه الفئة لا تتميز بحساسية زائدة في شأن حقوق الإنسان أو حقوق المواطن. ومن هذه الناحية، لا فارق بينهم وبين آبائهم إلا بانفتاحهم أكثر على الغرب، وعلى المبادرة الخاصة.
• جميعهم تحدث عن الإصلاح، لكن أحدًا منهم لم يصلح شيئًا.
بالعكس، جلبوا معهم نخبة جديدة جشعة، لا علاقة لها بمصادر النظام الأيديولوجية، وتقوم على ائتلاف بين أبناء قادة أجهزة الأمن والمسؤولين الذين استخدموا علاقات أهليهم ونفوذهم ليصبحوا رجال أعمال، وبين الأسرة الحاكمة ومحاسيبها من رجال الأعمال، وأجهزة الأمن. لقد كتبت عن هذه «النخب» الطفيلية الجديدة بتفصيل في كتاب سورية: درب الآلام نحو الحرية، وبتفصيل أكثر في كتاب ثورة مصر. وقد نشأ الوهم في حالات معينة من اعتماد بعضهم، بانتقائية، نمط حياة عصريًا. لكن، عمليًا، لا يقاس الإصلاح وإنجازه بالانحياز الى نمط حياتي محدد أو طقوسٍ اجتماعيةٍ ما، أو الاقتراب من تقليعات الموضة أو توسيع دوائر النخب الحاكمة لتضم ممثلين لفئات اجتماعية خارج بيروقراطية الدولة العسكرية والمدنية. كما أن الإصلاح الاقتصادي إذا لم يترافق مع إصلاح سياسي وتطبيق فاعل لمبادئ سيادة القانون وإنفاذه يكون حافزًا لانتشار الفساد بشكل أوسع، ولا سيما حين يصبح رجال الأعمال جزءًا من دوائر النخبة الحاكمة. إن معيار الاختبار العملي لمدى التزام نظام سياسي الإصلاح هو مقدار ما تحقق من تغيير على صعيد حقوق المواطنين والإنسان، ومدى الحساسية تجاه هذا الموضوع.
• كيف وجدت سورية المجتمع آنذاك؟ هل صدمتك مظاهر معينة؟
صدمتني أمور كثيرة عندما أصبح المواطنون السوريون يتكلمون معي على مشكلاتهم بصراحة، ومن دون خوف، بعد أن أدركوا أن لي تقاطعات مع النظام في مسألة المقاومة، لكني مستقل تمامًا عنه في القضايا الأخرى. وكنت قد نشرت آنذاك كتابي المجتمع المدني، وألقيت كثيرًا من المحاضراتٍ عن الديمقراطية، ولما لم أمتدح النظام في التلفزيون أو في الصحف، اكتشفوا فيّ نمطًا آخر تمامًا، وبدأ الناس العاديون، وحتى بعض المقربين من النظام، يشكون إلي همومهم مع النظام ومع أجهزة الاستخبارات.
• ومع الفساد.
تتلخص الحياة اليومية للمواطن العادي بشظف العيش المكنى «التعتير» من ناحية المعاش اليومي، وفي التعامل مع البيروقراطية والأجهزة الأمنية أيضًا. بدأت أطلع على قصص السوريين ومآسيهم اليومية. لذلك، عندما اندلعت الثورة وقفت إلى جانبها، لأنني أعرف مشكلات السوريين عن قرب، ومنها طريقة تعامل رجل الأمن مع المواطن العادي، والخوف الكامن في النفوس. وسلوك الانكفاء على الذات من جهة والنفاق من جهة أخرى، لا يفسّرهما إلا الخوف، علاوة على أن الفساد الذي لا تدور عجلات أي مؤسسة تقدم أي خدمة للمواطن من دونه؛ فالفساد ليس الاستثناء، بل كان القاعدة في سورية. فهو وسيلة إثراء الكبار وترجمة نفوذهم إلى ثروة، أو تحويل الجاه إلى مال على حد تعبير ابن خلدون. كما أن الفساد وسيلة لتوزيع الثروة عند صغار الموظفين، وهو أداة المواطنين لتسيير المعاملات وشق طريق الحياة اليومية. وكان من السهل ملاحظة مافيات مكوّنة من رجال الأعمال ورجال الأمن متصارعة على المساحات القابلة للاستغلال وجباية ثمار الفساد منها. فحول كل رجل أمن هناك رجال أعمال يتنافسون مع آخرين. إنها مافيات وإقطاعات، ولكل واحد قطاع اجتماعي أو إقطاعية له يستغلها كما يشاء. وعندما بدأت أزور المحافظات، وألقي محاضرات فيها، كان آلاف الناس يأتون لحضور هذه المحاضرات، الأمر الذي أتاح لي فرصة نادرة للتعرف إلى الناس على اختلاف فئاتهم الاجتماعية والمهنية. واكتشفت عدم تطور المحافظات وعدم وجود تنمية جدّية، في ما عدا حلب في الأعوام الأخيرة. كان اهتمام الرئيس بشار الأسد بحلب واضحًا، خصوصًا بعدما ظهرت عليها نتائج الانفتاح على تركيا. وفي ما عدا ذلك هناك فارق شاسع، بل صارخ، بين دمشق والمحافظات الأخرى.
• بما في ذلك المناطق التي تسكنها أغلبية علوية.
بما في ذلك المناطق العلوية. عندما نقول إن فارقًا شاسعًا يميز دمشق من المحافظات الأخرى، فإن هذه الفجوة عابرة للطوائف. والفارق بين دمشق والريف ما زال قائمًا على الرغم من أن برامج حزب البعث وشعاراته تزعم أن سورية دولة الفلاحين. وثمة هوامش وعشوائيات فقيرة جدًا في الحزام الذي يلف دمشق ذاتها. في سورية يوجد عالم أول وثان وثالث وعاشر. أحياء دمشق التي يقطنها العلويون الذين يخدمون في الدرجات الدنيا في الدولة، هي في الحقيقة عشوائيات وأحياء فقر. والناس في المناطق العلوية في الساحل السوري على صعوبة أوضاعهم الاقتصادية والتفاوت التنموي في مناطقهم مقارنة بسكان بعض أحياء دمشق، طيبون وكرماء، والهوية العربية راسخة جدًّا لديهم، وهذه مسألة إيجابية جدًّا في نظري. وقد خرج من الساحل السوري عدد كبير من المثقفين والفنانين بنسبة تتجاوز نسبتهم إلى عدد السكان.
أما تعدّد الطوائف في المجتمع السوري، فتبين لي أن الحساسيات الطائفية ما زالت موجودة، خلافًا لما كنت أعتقد بسبب تأثري المبكر بالفكر القومي. كنت أعتقد أن سورية تجاوزت الطائفة والطائفية، وفوجئت حين اكتشفت العكس عند فئات سكانية واسعة غير مسيّسة. فالانصهار الوطني لم يكن عميقًا. هنا لا أتحدث عن الانصهار بين الطوائف فحسب، بل بين المحافظات والمناطق المختلفة. لقد ساهم ضعف الانصهار الوطني على مستوى المحافظات، وبين مركز المحافظة وريفها، في ضعف الانصهار على مستوى الطوائف، خصوصًا إذا تركز بعض الطوائف في محافظات بعينها. نحن أمام إخفاق كارثي في التشكل الوطني على مستوى سورية، أو ما يسمى بعملية بناء الأمة. والأسوأ أنه جرى تنفير الناس من الأيديولوجيا القومية العربية لأنها أيديولوجيا النظام الحاكم، مع أن العروبة هي الوحيدة التي يمكن أن تجمع دير الزور ودرعا وحلب وحماة والسلمية واللاذقية والسويداء ودمشق.
• ما زالت نغمة هذا شامي وذاك حلبي شائعةً في سورية.
هذا حوراني وذاك ديري أو من حماة أو من الساحل. تلك العبارات ليست نغمة فحسب، بل إخفاق في بناء الأمة. لقد أخفق النظام في هذا كله إخفاقًا ذريعًا، ومع ذلك كنت أشعر وأنا في سورية أنني في بيتي. إن دمشق مكان تشعر فيه حقًا بأنك عربي، وكذلك حلب وحمص واللاذقية والسويداء والمدن السورية الأخرى التي زرتها.
يتبع...................................