مقال د.احمد خالد توفيق بخصوص الفيلم
زي النهارده: البعض ما زال مصرًا على الرقي !
بعدما رأيت فيلم (زي النهارده) شعرت بشفقة وخوف عارمين يغمرانني، لأنني قد رأيت (الزمهلاوية) و(شبه منحرف) وغيرهما من كوارث العيد، لذا بدا لي هذا الفيلم أقرب إلى عازفة كونسرفتوار راقية رقيقة تمشي وحدها في زقاق مليء بالحشاشين وضاربي البرشام. ما هي فرصتها في النجاة ؟..
ربما لا يعرف القارئ المخرج الشاب (عمرو سلامة) لكن له عددًا لا بأس به من الأفلام القصيرة المتميزة على موقع (يوتيوب)، وهو من المخرجين المثقفين بصريًا عاشقي السينما والمولعين بالتجديد، وقد شعرت بقلق خاص قبل رؤية الفيلم لأنني توقعت ألا يكبح جماح ألاعيب الكاميرا والفلاش كات وكل تلك الحيل التكنولوجية الكمبيوترية التي لا تضيف شيئًا للفيلم سوى (الخيلة الكذابة)، لكني وجدت في هذا الفيلم لغة ناضجة وناعمة جدًا. الفيلم من تأليفه وإخراجه ومونتاجه .. يعني هو فيلم مؤلف Auteur بالمعنى الكامل للكلمة.
الفيلم أقرب إلى الطراز الذي يسمونه Psycho-thriller أو (فيلم الرعب النفسي). تلعب بطولة الفيلم (بسمة) بحساسية بالغة، وصوتها يتدخل في السرد كثيرًا بطريقة التعليق الصوتي Voice-over حيث نراها في البداية تركض في الشوارع لتمنع جريمة قتل في اللحظة الأخيرة، ثم تتوقف عن السرد وتقرر أن تحكي الحكاية من بدايتها. هكذا نفهم أن كاتب السيناريو سيلجأ لأسلوب غلق الدائرة الشهير .. سوف تدور أحداث الفيلم لنعرف كيف وصلنا لمشهد القتل هذا ..
الفكرة هي أن الفتاة تمر بتجربة عاطفية لا تنساها، وفيها وقائع محددة بتواريخ ثابتة تدونها في مذكراتها بدقة ..عندما تنتهي قصة الحب نهاية أليمة وتشفى من ذكرى حبيبها الأول (نبيل عيسى)، تكتشف أن نفس الوقائع تتكرر بدقة مريبة مع حبيبها الثاني (أحمد الفيشاوي)، ومع إلحاح التكرار توقن في رعب أن نهاية حبها ستكون يوم 24 ديسمبر على الأرجح لأنه اليوم الذي فقدت فيه حبيبها السابق ..
هل يمكن منع هذا القطار القدري الذي يمشي مندفعًا على القضبان نحو نهاية محتومة ؟.. هذا عسير مع وجود أخيها مدمن المخدرات الضائع تمامًا، والذي تسبب في مصرع حبيبها الأول وكل شيء يؤكد أنه سيسبب مصرع حبيبها الثاني .. إنها تكتشف الحقيقة من خلال مجموعة من الفلاش باكات الخاطفة السريعة، على طريقة كل أفلام الرعب الحديثة في الواقع حيث تظهر إنحناءة النهاية بهذه الطريقة دائمًا. لكن هناك علامات استفهام كثيرة لا تعرف إجابتها ولعلها تركت عمدًا. من الصعب أن تغادر القاعة للحظات لأن تفصيلة مهمة ستفوتك، وأعتقد أن المشاهدة الثانية له سوف تفك الكثير من جدائله التي لم تلحظها أول مرة.
من الصعب أن أشرح الفكرة أكثر من ذلك وإلا أفسدت عليك القصة، على أن حرق الفكرة لن يفسد الفيلم بالكامل لأن هناك نسيجًا جميلاً يمكن أن تراه وتستمتع به حتى لو كنت تعرف النهاية.
الإنتاج (روتانا سينما ومحمد حفظي) جاء مناسبًا جدًا، فالفيلم ليس إنتاجًا ضخمًا ولا يحوي مجاميع أو انفجارات أو مؤثرات خاصة، لكنه لايبخل كي يجعل التفاصيل مقنعة مثل حوادث السيارات وسواها. التمثيل كان جيدًا وإن تفوق بشكل غير عادي كل من (آسر ياسين) و(أروى جودة). أنا رأيت (أروى) في دور سابق وكانت مجرد حسناء أخرى ككل فتيات الكليبات، لكنها في هذا الفيلم تخلت عن كل شيء يجعلها حسناء، وتمسكت بكل ما يجعلها منفرة في صالح الدور. مدمنة تعسة ضائعة تمامًا غارقة في العرق وتفرغ معدتها على ثياب (آسر).. أعتقد أن هذا الدور أفضل أداء أنثوي رأيته خلال خمس سنوات. وأداؤها وأداء (آسر) لدوري المدمنين أصيل، فهما لا يقلدان ما رأياه في الأفلام الأخرى. معظم الممثلين الآخرين متميزون وأخص بالذكر مساعدة المخرج التي لا أعرف اسمها، وتاجر المخدرات الصعيدي المصمم على الانتقام. على عكس هذا كان أداء أحمد الفيشاوي نمطيًا إلى حد ما، وطريقة نطقه تذكرني بطريقة التمثيل في الستينات.
التصوير كان مناسبًا للجو، وقد ساد الصورة طابع عام أزرق بارد مع سخاء في الظلال، فهؤلاء قوم يعرفون ما يفعلون جيدًا ولا يدعوهم الاستعجال إلى التنازل. مونتاج عمرو سلامة متقن لاهث، وإن كنت أرى أن القطع للقطة سقوط النجفة من السقف عند ذكر مجموع 102% طفولي نوعًا. هناك مشهد لا ينسى وبسمة تراقب عقارب الساعة فيتأرجح الكادر ذاته مع الدقات كأنه بندول ساعة يحطم الأعصاب. الموسيقا التصويرية في موضعها، وبالطبع يتوقع كل من يعرف عمرو سلامة أنه لابد أن يضع في أعماله الكثير من ألحان فرقة (وسط البلد). هنا أغنية كاملة للمطرب (هاني عادل) تم استغلالها جيدًا .. مع استهلالها بلقطة من داخل الجيتار نفسه..
الفيلم يهتم بتفاصيل الصورة فعلاً، مع تلك الحلول البصرية التي هي أقرب إلى الكنايات البليغة.. السيناريو ملقى على مقعد سيارة أحمد الفيشاوي كناية عن أنه رشح للدور .. القطط السود تنذرك بظهور المتسولة .. وجه نبيل عيسى يرفع كفه نحونا كناية عن اصطدام الحافلة به .. يد الفيشاوي ويد مساعدة المخرجة في ظلام السينما تحكيان قصة علاقة لا تكتمل.. مساعدة المخرج تتحسس السكين على المائدة بيد ترتجف فتخبرنا بتفاصيل ما سيحدث بعد انتهاء الفيلم.. من الصعب هنا ألا تتذكر عالم محمد خان العاشق لهذه التفاصيل الصغيرة. علاقة الحب تولد بين بسمة والفيشاوي من خلال دورات لا تنتهي بالكاميرا حولهما بينما الحوار مستمر لكن ثيابهما والمكان يتغيرون. تذكر أن هذا أول فيلم روائي لعمرو سلامة لتمنحه إعجابك بلا تحفظ. لكني أذكره فقط أن بونابرت لم ينتحر !.. قالوا إنه مات بالسرطان، وقالوا إن هناك من سممه بالزرنيخ .. لكنه لم ينتحر ..
(زي النهارده) تجربة راقية ونظيفة و(بنت ناس) فعلاً، لهذا يقلق المرء عليها كثيرًا وسط سوق أفلام العيد المليئة بتجار المخدرات وأصحاب السوابق والعاملين دماغ، لكن صانعيه ما زالوا يعتقدون أن السينما – تصور هذا – يجب أن تكون جميلة راقية حتى لو تكلمت عن الإدمان أو القتل