باللغة الصينية، الخريف الماضي (دار ييلين للنشر، بكين، 2019)، قبل العربية منذ أسبوعين (دار الساقي، بيروت، 2020)، صدر لأدونيس كتابُه الشعري الجديد "أوسْمانْتوس"، يضم خمسين قصيدة، استوحاها من رحلة لهٍ في الصين، سيما في جبل هوانجشان (الجبل الأصفر)، المشهور بمشاهد طبيعية بديعة. لم يكن أدونيس هناك سائحا، وإنما صاحب العقل المتفكّر، المتأمل في الأشياء والوجود والعالم، ولذلك لم يكن وصّافا، ولا مشغولا بصور شعريةٍ أرادها، وإنما بدا حفّارا في إيحاءاتٍ شعّت بها في أخيلته الأمكنةُ التي جال فيها هناك، وهو صاحب خبرةٍ لغويةٍ عتيدٌ في أمرٍ كهذا. وكانت الركلةُ الذروةُ في قصائده هنا اختيارَه شجرة الأوسمانتوس الصينية، ليس فقط عنوانا للمجموعة الشعرية المثيرة، وإنما معنىً وروحا وجمالا في حضورها الكثير في القصائد. هي شجرة زهر، دائمة الخضرة، زهورها بيضاء وصفراء وبرتقالية، رائحتها عَطرة قوية، أقرب إلى روائح المشمش والخوخ. تُستخدم للزينة، ولاصطفاء عطور أنيقة وجذّابة، وغالية الثمن، في العالم، ونكهتها في الشاي والحلويات محبّبة، وترد في أساطير وحكاياتٍ صينية كثيرة. يكتب أدونيس في قصيدة "سؤال": ../ وكتبتُ في مخيلتي قصيدةً/ فوجئتُ أن شجرة الأوسمانتوس/ تحفظُها عن ظهر قلب،/ وأنها سبقتني إلى قراءتها/ .. .
قال أدونيس، أخيرا، في ملتقى في أبوظبي، إن الشعر أسهل من الفلسفة والرياضيات والعلوم، لأنه جزءٌ من المخيلة والحلم، وهو لم يعد محصورا في القصيدة. وفي "أوسْمانْتوس" لا يبدو أمينا لمبنى القصيدة المستقرّ في قراءاتنا وإدراكاتنا ومعارفنا، وإنما أمينا لجنوح الشعر لديه، منذ بداياته قبل أكثر من نصف قرن، إلى الفكر، إلى المعرفة، إلى القبض على الجمال بالفكرة، لا بالصورة. يسأل في قصيدته "تغيير" ../ ماذا لو قام الجبل الأصفر برحلةٍ إلى مدينة جبلة وإلى قرية قصّابين، جارتها القريبة؟.. وفي قصيدته "عطر"، يكتب: يبدو أن لديكَ، يا عطر الأوسمانتوس، ما يفصلني عن كثيرين من أبناء،/ جلدتي/ أولئك الذين يدعمون جدران بيوتهم بالألفاظ، ويحسبون الظلال أشجارا./ أولئك الذين لا يدري أحدٌ في هذا العالم المفترس، ماذا سيفعلون، عندما سيخلو من فرائسهم. .. ماذا يقول أدونيس هنا؟ ما الذي يرمي إليه؟ هو الهجّاء للعرب وثقافتهم ومدنهم وحاضرهم وماضيهم ومجتمعاتهم، تُراهما زهرة الأوسمانتوس وعطرُها أبعداه أكثر وأكثر، أم أن أسئلةً كهذه، وافتراضاتٍ كهذه، لا تليقان بقراءة الشعر، أصلا؟ ولكن شعر أدونيس، هنا وفي غير هنا، يشفّ عن محتملٍ كثير، وإنْ هذا مجهدٌ للذهن ربما، سيما وأن قصيدةً سألت عما يصير لو أن الجبل الأصفر في الصين ارتحل إلى قرية صاحبها قصّابين، السورية. ولمّا يتخاطب الشاعرُ مع هذا الجبل في قصيدةٍ أخرى، يتكلمّان في مقطعٍ فيها: / ـ ألديك، الآن، في هذه اللحظة، ما تحبّ أن تقوله لعربيٍّ يزورك؟/ ـ أقترح على السماء أن تزور الأرض،/ أن تزورَ، على الأخص، الأرض العربية./ ـ غير أنها أرضٌ لا عمل لها غير الكلام/.
يكون أدونيس هناك في الصين، في الجبل الأصفر، وفي منتجعٍ، مكانٍ مفردٍ، تُزرع باسمه شجرة أوسمانتوس، يكون عربيا تقدح قريحتُه بالكلام، بالشعر، بالتأمل، بالغضب، بالبهجة بعطر الشجرة الصينية وأزهارها التي تسمّى أحيانا أزهار العشاق. يكون نفسُه أدونيس الذي نعرف بشأن العرب. يكتب في قصيدته "رسالة الأوسمانتوس إلى أشجار صديقة في العالم": أنتِ، يا تلك الأشجار الصديقة في بلاد العرب،/ أقرأ الآن تاريخا يهزّ جذوعكِ/ تاريخا لا رأس له. مجرّد معدةٍ وقدمين./ لم تعد أي شجرةٍ تلوّحُ لأختها، يقول الهواء العربي./ لم يعد الوادي يتحدّث مع جيرانه،/ لم يعد الجبل ينحني احتفاء بصديقه./.. ومن هناك، من الشرق البعيد في شرق الصين، لا يفلت الغربُ أيضا من مرميات أدونيس، ولكن بالشعر بالغ النثرية في تحرّره المتطرّف من سلالم الإيقاع. ويقذف لغةً عاليةً في مفاجآتها، تُحاول الوصول إلى مبتغىً لا تصل إليه. يكتب: أعترف لك، أيها الرعد، أنني ساعدتُ الشمس مرة، لكي أزحزح عن وجهها حجاب الغيم./ وأرجو أن تعطيني فرصةً ثانيةً لكي أصحّح هذه العلاقة الملتبسةَ، بين الأبجدية العربية وبيني.
كيفما يُقرأ أدونيس، في جديده الصيني المزاج هذه المرّة، لا مراء في حقيقةٍ مؤكّدة، أن كل جديد له، شعريٍّ خصوصا، مربكٌ ومقلقٌ، ومزعجٌ، وجميلٌ أيضا عندما نشمّ معه زهور الأوسمانتوس في كتابه الجديد، وقد كتب فيه: ../ وكنتُ غيّرت اسمي في بدايات كتابتي،/ مذّاك، أخذ اسمي نفسه يتغير،/ كلما كتبت قصيدةً.
مزيد من التفاصيل
آخر 10 مشاركات
6th March 2020, 12:51 AM
أدونيس في قصائد الصين
العرض العادي
