في آخر تصريحاته، أعلن حاكم المصرف المركزي في لبنان، رياض سلامة، أن ما بقي من احتياطات بالعملة الصعبة بحوزة المصرف لا يتجاوز حدود 19.5 مليار دولار، من بينها نحو 17.5 مليار دولار تمثّل احتياطياً إلزامياً أودعته المصارف التجاريّة لدى المصرف، ولا يمكن استخدامها.
بمعنى آخر، ما بقي في المصرف من عملات صعبة يمكن استخدامها لدعم استيراد السلع الأساسيّة لا يتجاوز مستوى الملياري دولار، وهو ما لن يكفي لأكثر من شهرين من الدعم، إذا ما أخذنا بالاعتبار وتيرة استنزاف هذه الاحتياطات خلال الأشهر الماضية.
لا يحتاج المرء إلى الكثير من الشرح لتبيان حجم الكارثة الاجتماعيّة التي ستنتج من هذا التطوّر. فرغم انهيار سعر الصرف إلى مستويات غير مسبوقة خلال الأشهر الماضية، ظل المصرف المركزي يؤمّن حاجة البلاد للعملة الصعبة لاستيراد المحروقات والدواء والقمح وفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم، وذلك باستخدام احتياطي العملات الأجنبيّة الباقي لديه. وعند استنزاف قدرة المصرف على توفير هذا الدعم، ستكون النتيجة تضاعف أسعار هذه السلع الحيويّة في الأسواق، مع كل ما يعنيه هذا الأمر من ارتفاع غير مسبوق في نسبة اللبنانيين القابعين تحت خط الفقر.
عمليّاً، جرى الحديث أخيراً عن بدائل معيّنة، كاستخدام بطاقات تموينيّة معيّنة لترشيد الدعم. لكنّ هذا النوع من البدائل سرعان ما أثار هواجس اللبنانيين من كل أشكال المحسوبيّات والسمسرات التي غالباً ما ترتبط بأي نوع من التقديمات والمساعدات التي توفّرها الدولة في لبنان. باختصار، لن تعني هذه الخطوة سوى أسر شرائح واسعة من اللبنانيين في صفوف المعتمدين على الوساطات التي توفّرها أحزاب الطوائف في لبنان، لتمكينهم من الحصول على حصّة من الدعم، وتوفير أبسط مقومات العيش.
بالتأكيد، ترتبط كل هذه التطوّرات بحقائق لا يمكن تجاهلها، وأهمها عدم قدرة البلاد على الاعتماد على احتياطي محدود من العملات الأجنبيّة لاستيراد السلع الحيويّة إلى ما لا نهاية. لكن في الوقت نفسه، لا يوجد اليوم في الدولة من يسأل المسؤولين الحكوميين والقيّمين على عمليّات المصرف المركزي عن كل أشكال إساءة استعمال هذا الاحتياطي طوال الأشهر الماضية، التي أدّت إلى تناقص مستويات الاحتياطي بهذه السرعة إلى هذه المستويات الحسّاسة. مع العلم أن هذه الاحتياطات ليست سوى ما بقي من أموال المودعين بالعملات الصعبة، التي أودعتها المصارف التجاريّة في المصرف المركزي.
فأرقام المصرف المركزي، تثبت أنّ المصرف استنزف منذ بداية السنة ما يقارب 8.81 مليارات دولار من احتياطاته في تحويلات لا يعرف اللبنانيون تفاصيلها ولا هويّة المستفيدين منها، في حين أن ما احتاجته البلاد في النصف الأوّل من العام لدعم السلع الحيويّة لم يتجاوز مستوى الـ2.12 مليار دولار، بحسب أرقام الجمارك اللبنانيّة. باختصار، ثمّة فارق شاسع بين وتيرة استنزاف الاحتياطي، وحاجة البلاد الفعليّة لدعم الاستيراد.
في الواقع، يصبح التشكيك في طريقة إدارة الاحتياطي ونوعيّة العمليّات مسألة مشروعة اليوم، إذا ما أخذنا بالاعتبار العرقلة المتعمّدة التي أفشلت إقرار أي قانون يمكن أن ينظّم مسألة الضوابط على السيولة الموجودة في النظام المصرفي، أو ما يُعرف محليّاً بالـ"كابيتال كونترول"، بشكل يمنع الاستنسابيّة في التعاطي مع هذه المسألة. وبعد نحو 11 شهراً من حصول الانهيار المالي الكبير في تشرين الأوّل/ أكتوبر من العام الماضي، ما زالت هذه المسألة تجري خارج أي إطار قانوني رسمي.
عمليّاً، كان من المفترض أن تكون كل هذه التساؤلات أحد مواضيع التدقيق الجنائي في أرقام مصرف لبنان، الذي كان يُفترض أن يشمل في نطاقه مسألة التحويلات المشبوهة التي حصلت بنحو استنسابي بعد تشرين الأول/ أكتوبر لبعض كبار النافذين. أقرّت الحكومة مبدأ التدقيق الجنائي تحت ضغط صندوق النقد الدولي، لكنّ تنفيذ هذا القرار لاحقاً نزع عن هذا التدقيق طابعه الجنائي، بعد أن اندفعت الدولة إلى التعاقد مع شركة التدقيق دون معالجة العقبات القانونيّة التي تمنع الشركة من الحصول على تفاصيل هذه العمليّات، وتحديداً العقبات المتصلة بالسريّة المصرفيّة.
في الواقع، لم تكن مسألة إدارة الاحتياطات والدعم المسألة الوحيدة التي يتصرّف بها المصرف بمعزل عن أي محاسبة أو مساءلة. فبالتوازي مع كل هذه التطوّرات، كان المصرف المركزي يصدر تعميماً يرسم خريطة الطريق لإعادة رسملة القطاع المصرفي وإعادة هيكلته، وهي عمليّة يطالب بها الجميع اليوم لاستعادة الثقة بالنظام المالي.
لكنّ هذا التعميم انطوى بدوره على إشكاليّات كبيرة، أفرغت عمليّة إعادة الرسملة من جوهرها. فبينما كان المطلوب ضخ رساميل جديدة يمكن أن توفّر السيولة التي تحتاجها المصارف لاستعادة ملاءتها ودفع التزاماتها للمودعين، احتوى التعميم على تدابير ترفع رساميل المصارف من خلال هندسيات محاسبيّة دفتريّة لا تقدّم أي سيولة قابلة للاستخدام، كالتدابير التي نصّت على إمكانيّة زيادة رساميل المصارف من خلال عمليّات إعادة تقييم للعقارات التي تمثّل فروع المصارف ومراكزها الأساسيّة.
وفي الوقت نفسه، كان المصرف يحاول التحايل على عمليّة إعادة الرسملة، من خلال التقليل من حجم الخسائر التي يجب أن يعترف بها القطاع المصرفي ويتحمّلها من رساميل مساهميه، لإعادة الملاءة للقطاع. إذ لم يفترض التعميم نفسه وجود أي خسائر مقابل سندات الدين السيادي التي اكتتبت بها المصارف بالليرة اللبنانيّة، كذلك حدد نسبة منخفضة للخسائر التي يجب أن تحتسبها المصارف مقابل سندات الدين السيادي المقوّمة بالعملة الأجنبيّة. مع العلم أن كل هذه النسب كان يجب أن تحدد بشكل حاسم في مفاوضات الحكومة مع المصارف، التي تعثّرت بعد استقالة الحكومة.
ما يمكن استنتاجه من كل هذه الأحداث، أن المصرف المركزي وجد نفسه اليوم مطلق اليدين في التعامل مع كل المسائل التي تُعنى بمعالجة أزمة القطاع المالي، بمعزل عن أي خطّة رسميّة شاملة تضمن مصالح اللبنانيين، سواء في ما يتعلّق بالغالبيّة الساحقة من المواطنين محدودي الدخل، الذين سيتضررون من رفع الدعم عن الاستيراد بشكل مفاجئ ودون أي تصوّر لكيفيّة تلافي حصول أزمة معيشيّة خانقة، أو في ما يتعلّق بأصحاب الودائع الذين لن يبصروا خطّة إعادة رسملة حقيقيّة تضمن استعادة ودائعهم المحتجزة في النظام المالي. باختصار، لا يوجد من يسأل عن مصالح اللبنانيين.
مزيد من التفاصيل