منذ عام 1948 لم تركن الحركة الصهيونية ودولتها الوليدة إلى أي اتفاق يحصرها في نطاق جغرافي محدد، ففي زمن المهادنات كما في الحروب حاولت دائما توسيع رقعتها تارة بالمواجهات العسكرية، وتارة أخرى بالقرارات القضائية والتغاضي الدولي وقضم المساحات المتبقية للشعب الفلسطيني عبر بناء مستوطنات وإجلاء الفلسطينيين بخاصة على غلاف الضفة الغربية.
كانت آخر حلقات هذا المسلسل الطويل محاولة تهجير سكان حي الشيخ جراح الواقع في الجزء الشرقي من المدينة المقدسة، والذي انتفض على إثرها أهالي الحي لينسحب ذلك إلى كافة الأراضي الفلسطينية ومنها إلى كل العالم، لتتحول قضية حي الشيخ جراح إلى قضية عالمية في غضون بضعة أيام بخاصة بعد اندلاع المواجهات على الجبهة الفلسطينية المقابلة بين غزة والأراضي المحتلة.
عادت إذا القضية الفلسطينية للواجهة من البوابة العريضة، فكانت المواجهات الدائرة ساحة رئيسية لمراقبة آثار التطبيع على الشعوب كما الأحزاب والهيئات في مختلف الدول العربية والإسلامية، فكان جليا فشل التطبيع الذي انتهجه الحكام العرب في التسرب إلى الشعوب. فقد ضجت الساحات العالمية كما العربية والإسلامية بالمظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية، كما فوجئ العالم بزخم التعاطف مع الفلسطينيين على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي.
عليه، "استحى" العديد من المطبعين العرب من إبراز ميولهم الحقيقية أمام المد الشعبي الجارف الداعم لفلسطين ومقاومتها، وظهر الغالبية بمظهر الداعم المؤيد للقضية ليضيف بعضهم "رشة" التحفظات التي تظهر النواية الحقيقية. فبرز هنا التساؤل عن حقيقية تأييد شرائح كبيرة من الأحزاب والهئيات والدول العربية للقضية: فهل هو تأييد مبدئي لشعب مظلوم هجر من أرضه وتنكل به ولا يزال؟ أم أنها سياسة آنية غير مبدئية تنظر للقضية بالمصلحة الضيقة للحظة الراهنة؟
ففي مراجعة مواقف العديد من مؤيدي المقاومة الفلسطينية في لبنان، تظهر علامات النفاق المختلفة من التلون والخداع والمصلحية البحتة وغيرها من مظاهر النفاق.
فالفئة الأولى ناصرت المقاومة الفلسطينية عبر التاريخ واستغلت وجودهم في لبنان لتحسين موقعهم في السلطة في سبيل الشعارات الإصلاحية، ولكنها عند وصولها للحكم نهبت ثروات البلد واستغلت مقدراته لمصلحتها الفئوية، وهي اليوم تتابع نفس السياسة الفاسدة بتأييد القضية الفلسطينية من جهة وتفتيت لبنان اقتصاديا وسياسيا من جهة أخرى. فهل يعتبر الفاسد المفسد في بلده والمتسبب بظلم شعبه مؤيدا حقيقيا لشعب مظلوم كالشعب الفلسطيني؟
أما الفئة الثانية، فهي فئة قاتلت الكيان الصهيوني وتبنت مقاومته وكانت لها إنجازات في ذلك، ولكنها في الوقت عينه استغلت سلاحها لإرهاب الآمنين في لبنان، وقمع حركات التحرر في سوريا وقتل مئات الآلاف من السوريين وتهجير الملايين، والتغطية على الفاسدين وتجار الأرواح في لبنان وحمايتهم. فهل يعتبر القاتل في مكان مقاوما في مكان آخر؟ وهل دفاعه عن المقاومين في فلسطين نابع من مبدأ الدفاع عن مظلوميين وهو المتسبب على المقلب الآخر بظلم الملايين في أماكن أخرى عديدة؟
أما الفئة الثالثة، فهي الفئة التي دأبت على رفع شعارات مقاومة التدخل الخارجي في الشأن اللبناني وخاضت الحروب تحت هذا الشعار واستنكرت تاريخيا عدم فهم دوافعها لذلك، فتقف هذه الفئة اليوم متضامنة مع الشعب الفلسطيني على استحياء ومؤكدة على أنه شأن خارجي لا يجب أن يصرف عليه الجهد أو الوقت أو حتى الاهتمام الكبير؛ لأنه بنظرهم انحراف عن الهوية اللبنانية. فهل يعي هؤلاء التناقض في طرحهم؟ وهل فعلا هم داعمون لاستقلال لبنان ومدافعون عن مظلوميه بهدف السيادة ومحاربة الظلم أم أن هناك مآرب أخرى؟
الفئة الرابعة، التي رفعت شعارات الثورة والديمقراطية ومحاربة فساد السلطة اللبنانية، وكانت من المطالبين بالدولة المدنية العادلة القوية المحاربة للفساد والمحسوبية والتي تساوي بين المواطنين، اندفعت أيضا للدفاع عن القضية الفلسطينية باعتبارها قضية شعب مظلوم ومضطهد ويحتاج للتحرر كضرورة لإحلال السلام. هذه الفئة نفسها هللت لمحاولة الانقلاب العسكري في تركيا على حساب الاختيار الشعبي الديمقراطي. الأمر نفسه كان بعد انتخابات مصر بعد الثورة والتي أيدوا الخروج عليها وعلى أول رئيس مصري منتخب في تاريخها الحديث، ودعموا الانقلاب العسكري وغضوا الطرف عن كل ممارساته الدموية بحق شعبه. فهل بعد كل هذا يكون دعم الفلسطينين مقنعا منهم؟ أم أنها مصلحة آنية تنقلب إذا ما استفاد خصومهم من هذه المقاومة؟
الفئة الخامسة والتي تتلاقى مع السابقة فتدعم القضية ولكنها تعترض على المقاومة المسلحة، فتعتبرها بغير جدوى وتثير سخط المجتمع الدولي، أما على الحقيقة فهم يعارضونها لأنها تعطي أعداءهم في السياسة أفضلية على الأرض وفي قلوب العرب والمسلمين. فموقف هؤلاء، إن أخذ عن حسن نية، فهو يقطر جهلا بالصراع التاريخي مع إسرائيل، وعقليتها وتفاعلها الاستغلالي والسلبي مع خطط السلام والاتفاقيات التي عقدت مع الإطراف العربية، والتي لم تشكل إلا بابا لشرعنة الاحتلال الذي لم يقف عند هذه الاتفاقات يوما، بل تعداها كلما سنحت الفرصة بما يخدم مصالحه التوسعية التي لا نهاية لها. فهل مواقف وآراء هذه الفئة تعتبر سذاجة في نصرة القضية أم خبثا ومكرا؟
أم الفئة السادسة والتي برزت في السنوات الماضية وأصبح لها منابرها الإعلامية ومخصصاتها المادية العريضة، فهي السم الأكبر، وهي التي جمعت تناقضات الفئات السابقة، فأعلنت على استحياء دعمها للقضية الفلسطينية، ولكنها حاربت الربيع العربي ودعمت الانقلابات العسكرية والمستبدين، وقادت المحور المؤيد لإسرائيل، وحالفت ودعمت كل محارب للمقاومة الفلسطينية بهدف استئصالها من جذورها، وأنشأت ومولت مشاريع في مصر والسودان والأردن والضفة والعديد من المناطق والبلدان؛ هدفت من خلالها إلى تضييق الخناق على المقاومة، ناهيك عن اعتقال وتعذيب مواطنيها الداعمين للقضية وتشكيل جماعات ضغط حول صناع القرار في العالم بهدف ثنيهم عن أي قرار يصب في مصلحة فلسطين وقضايا التحرر الوطني في العالم العربي. حتى هذه الفئة أعلنت دعمها للقضية، وإن كانت هي رأس حربة النفاق في محاربتها.
خلاصة القول، أن تأييد القضية الفلسطينية كقضية عادلة تحتاج للصادقين مع أنفسهم، المدافعين عن القضايا المحقة لكونها محقة لا لكونها تصب في مصلحتهم هنا أو هناك. إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن النفاق درجات، وفي خضم المعركة تبرز الأولويات بين منافق يأمن شره الآن وتؤجل محاربته ويمكن استمالته، وبين منافق تجب تعرية نفاقه وعدم قبول تعاطفه الكاذب، وهو محارب القضية الشرس اليوم ومستقبلا، خوفا من انتشاره وتوسع نفوذه وتأكيدا على كونه حالة مرضية خبيثة غريبة عن جسد الأمة يجب استصالها قبل التعامل مع حالات النفاق الأخرى.
مزيد من التفاصيل