العنوانهو عنوان كتاب السياسي والمفكر والخطيب الروماني الأشهر ماركوس توليوس شيشرون، وضعهعام 44 قبل الميلاد، وقد قرأته، قبل عامين، في ترجمته العربية، التي أنجزها فتحي أبورفيعة، عن ترجمة إنجليزية صادرة في الولايات المتحدة، وعدت أقرأه قبل يومين، باحثاعن جملة أو اثنتين، فوقعت على ما جعلني أدقق أكثر في أثره العالق بذهني، فشيشرون يهديالكتاب إلى صديقه "أتيكوس"، وفي الهامش يكتب المترجم "كان أتيكوس فيالخامسة والستين، وكان شيشرون في الثانية والستين"، في ذلك الوقت كان هذا العمريعد شيخوخة، هكذا قلت لنفسي، متعللا بأني وإن كنت في نفس عمر شيشرون، الآن، إلا أنهفي زماننا هذا ما زال بيني وبين الشيخوخة حلقة أو حلقتين على الأقل، ونحيت جانبا معلومةأن شيشرون جرى اغتياله بعد عام فقط من تأليفه المديح اللطيف.
في المرتينلم يفارق خيالي شخصان، أحدثكم عنهما في النهاية، وسأعرض بعض ما لفتني في الكتاب، أولا.
في تقديمفيليب فريمان للترجمة الإنجليزية، عن اللاتينية، نعرف أن العام السابق على كتابة"في مديح الشيخوخة" لم يكن عاما سعيدا بالنسبة لشيشرون، فقد كان "الخطيبالأشهر ورجل الدولة المرموق في روما في أوائل العقد السابع من عمره، وكان وحيدا بعدأن انفصل منذ بضعة أعوام عن زوجته ذات الثلاثين ربيعا، وتزوج زوجة أصغر سنا، ما لبثأن طلقها على الفور. وفي مطلع هذا العام، توفيت ابنته المحبوبة تولليا؛ ما دفعه إلىحالة من اليأس والقنوط. وكان قد فقد مكانته في طليعة رجال السياسة الرومان قبل ذلكبأربع سنوات حينما عبر يوليوس قيصر نهر روبيكون وأرغم الجمهورية الرومانية على الدخولفي حرب أهلية. ولم يكن بوسع شيشرون أن يؤيد قيصر، وبالتالي، فبعد أن وقف في البدايةفي مواجهة الدكتاتور الجديد وحصل في نهاية المطاف على عفو عام أشعره بالمهانة؛ انسحبإلى ضيعته الريفية، وظل هناك بعيدا عن روما كرجل وحيد يعيش حياته وأفكاره دونما أينفع يقدمه للعالم".
هذههي الأجواء التي شرع فيها شيشرون في الكتابة: "أكتب حول موضوع التقدم في العمر"ويشعر أن الشيخوخة تتقدم منه سريعا وعلى نحو لا مناص، وأن عليه أن يواجها بهدوء وحكمة.
يقيمشيشرون كتابه في إطار "المحاورة" ويسند طرفيها إلى شخصيات معروفة في التاريخالروماني، فاختار شيشرون للتحدث بالنيابة عنه في حواره الخيالي "كاتو الصغير"،وهو قائد روماني راحل، يجعله يحاور اثنين من أصدقائه الأصغر سنا.
هكذانفهم أن كلمات "كاتو" (مات عن 84 عاما) هي كلمات شيشرون، فكاتو يقول: أستبعدكل الأفكار المتعلقة بمساوئ التقدُّم في العمر، وحولتها بدلًا عن ذلك إلى احتمالاتسارة ومبهجة".
ينطلقشيشرون من أن معظم كبار السن يزعمون أن الشيخوخة تشكل بالنسبة إليهم عبئا أشد وطأةمن الجبل، لكنه يؤكد أن "هؤلاء الذين يفتقدون داخل أنفسهم الموارد التي تمكنهممن العيش حياة هانئة وسعيدة سيشعرون بالألم في أي مرحلة من مراحل عمرهم. (ف) كل إنسانيأمل في الوصول إلى سن الشيخوخة، لكنها حينما تحل، يشرع معظمنا في الشكوى منها، فهكذاالناس على هذا القدر من الغباء وعدم الثبات".
الشكوىالرئيسية يصوغها هكذا: "النحيب لأن الشيخوخة سلبت ملذات الحياة الحسية، وهي الملذاتالتي بدونها لا تستحق الحياة أن تعاش. أنهم (المتقدمون في السن) لم يعودوا يلقون العنايةمن الأشخاص الذين كانوا يهتمون بهم من قبل".
ويردعليها: "إن إلقاء اللوم فيما يتعلق بكل أنواع الشكاوى هو مسألة تتعلق بشخصية الشاكي،وليس بعمره، والأشخاص المسنون المتعقلون، وذوو السجايا الطيبة والسمحون سوف يتحملونالشيخوخة جيدا، أما ضعاف الروح وذوو الطباع الحادة فلن يكون من نصيبهم سوى التعاسةفي كل مراحل حياتهم".
الادعاءالأول يرتكز على أن "الثروة والممتلكات والوضع الاجتماعي، وهي مزايا لا يحصل عليهافي حياتهم إلا القليلون- هي التي تجعل الشيخوخة ممتعة إلى هذا الحد".
والردهو: "الشيخوخة لا تشكل عبئًا هينًا على الحكيم حتى وإن كان فقيرا. أما بالنسبةإلى الشخص الأحمق فإن أموال العالم لن تسهل عليه آلام الشيخوخة".
هذهمقدمات تفضي إلى صياغة القضية بشكل إجمالي: "حينما أفكر في الشيخوخة، يمكنني أنأجد أن هناك أربعة أسباب تجعلها بالغة التعاسة: الأول: أنها تبعدنا عن ممارسة النشاط،والثاني: أنها تضعف أجسامنا، والثالث: أنها تحرمنا تقريبا من جميع ملذاتنا الحسية،والرابع: أنها ليست بعيدة عن الموت".
سأعرضمعالجة شيشرون للسبب الأول فقط، وهو: الحياة النشيطة.
يسألشيشرون: عن أي نوع من الأنشطة نتحدث؟ ألا نعني بذلك الأنشطة التي نشارك فيها ونحن شبابأقوياء؟
ويكونالجواب: ولكن من المؤكد أن هناك أنشطة تناسب عقول الأشخاص الأكبر سنا حتى وإن أصابالوهن الجسد. إن الذين يقولون إنه ليست هناك أنشطة مفيدة تتعلق بالشيخوخة يجهلون مايتحدثون عنه. إنهم كهؤلاء الذين يقولون أن القبطان لا يفعل شيئا مفيدا لكي تبحر السفينةلأن هناك آخرين... بينما هو يجلس مستريحا في قمرة السفينة ممسكا بدفتها. فهو وإن كانلا يقوم بما يقوم به البحارة الأصغر سنا؛ إلا أن ما يقوم به هو أهم وأقيم. فالأفعالالعظيمة لا يقيَّم أداؤها بما استخدم فيها من قوة وسرعة ورشاقة بدنية لكنه يقيَّم بالحكمةوقوة الشخصية والحكم المتّزن. وتتوفر هذه الصفات للأشخاص في شيخوختهم؛ بل إنها تنمووتزداد ثراء مع الوقت.
ويقدمشيشرون مثلين من التاريخ ومن المسرح، فمن التاريخ يذكر "إذا قرأتم أو سمعتم عنتاريخ الأراضي الأجنبية، فسوف تعلمون أن الشباب هم وراء الانقلابات في أعظم الدول،وأن الشيوخ وراء استعادتها".
ومنالمسرح يستعيد هذا الحوار:
قل لي،كيف خسرت وطنك بهذه السرعة
وكانالرد ذا المغزى الأعمق لهذه الشخصية ما يلي:
لأنمتكلمين جُدُدًا حلُّوا، حمقى وصغار السن".
في الردعلى الادعاء بأن الذاكرة تخبو على مر السنين، يورد شيشرون حكاية عن الكاتب المسرحيالإغريقي الأشهر: ألف سوفوكليس تراجيدياته وهو في شيخوخته. وحينما بدا أنه يهمل الإنفاقعلى أسرته بسبب شغفه بالكتابة، جرَّه أبناؤه إلى المحاكم لتجريده من أهليته بحجة عدمالسلامة العقلية (فقد كان لديهم مثلنا قوانين تتيح فرض هذه العقوبات على أرباب الأسرالذين يسيئون إدارة شؤون أعمالهم). ويقولون أن سوفوكليس قرأ على هيئة المحكمة مسرحيته"أوديب في كولونا" التي كان قد انتهى لتوه من كتابتها، ولم يكن حتى قد راجعها،وسأل الحضور بعد أن انتهى من قراءتها إن كان ما سمعوه يشي بأنه عمل رجل مخبول. وعلىالفور أفرجت عنه المحكمة إثر الانتهاء من قراءته".
ويردف،شيشرون، بحكاية سوفوكليس أسماء مفكرين وفلاسفة "عاشوا حياة نشطة حافلة بالعملطيلة حياتهم"، ثم يلتفت إلى زوايا أخرى من الحياة: "إذا وضعنا جانبا هؤلاءالرجال الاستثنائيين وأعمالهم؛ يمكنني أن أذكر لكم أسماء مزارعين رومانيين مسنين..لم يكونوا بالكاد يخرجون من حقولهم أثناء عمليات الزراعة الرئيسية.. هؤلاء الرجال كانوايدركون أنهم يقومون بمهام لن يعيشوا لإنجازها، مثلما يقول الشاعر: إنهيغرس الأشجار لمنفعة جيل آخر.
من القراءةالأولى كان النابغة الذبياني حاضرا في ذهني وأنا أقرأ مديح شيشرون للشيخوخة، فمنذ طالعتما كتب عن أسباب تسمية الشاعر زياد بن معاوية بـ"النابغة" ملت إلى مسألةورود الشعر عليه في شيخوخته، فكتب النقد والبلاغة القديمة تذكر أن "النابغة لقببهذا اللقب لأنه نبغ في الشعر، أي أبدع في الشعر دفعة واحدة، واختلف النقاد في تعليلهوتفسيره. ابن قتيبة يذكر أنه لقب بالنّابغة لقوله: وحلّت في بني القين بن جسر- فقدنبغت لهم منا شؤون، وردّ ابن قتيبة هذا اللقب إلى قولهم: "ونبغ- بالشعر- قالهبعد ما احتنك وهلك قبل أن يهتر"، واحتنك أي فقد كل أسنانه. وفي رأي البغدادي،أن هذا اللقب لحقه لأنه لم ينظم الشعر حتى أصبح رجلاً. وربّما كان اللقب مجازاً، علىحدّ قول العرب: نبغت الحمامة، إذا أرسلت صوتها في الغناء، ونبغ الماء إذا غزر. فقيل:نبغ الشاعر، والشاعر نابغة، إذا غزرت مادة شعره وكثرت.
رجحتمنذ مراهقتى أن الذبياني (نسبة لقبيلة ذبيان) لُقب بالنابغة لأنه لم ينشد الشعر إلافي مقتبل شيخوخته.
لذلككنت أنشد (في مراهقتي) أبياته هذه:
مَنيَطلِبِ الدَهرُ تُدرِكهُ مَخالِبُهُ
وَالدَهرُبِالوِترِ ناجٍ غَيرُ مَطلوبِ
ما مِنأُناسٍ ذَوي مَجدٍ وَمَكرُمةٍ
إِلّايَشُدُّ عَلَيهِم شِدَّةَ الذيبِ
حَتّىيُبيدَ عَلى عَمدٍ سَراتَهُمُ
بِالنافِذاتِمِنَ النَبلِ المَصايِيبِ
إِنّيوَجَدتُ سِهامَ المَوتِ مُعرِضَةً
بِكُلِّحَتفٍ مِنَ الآجالِ مَكتوبِ
الشخصالثاني الذي شغل مخيلتي وأنا أقرأ "في مديح الشيخوخة" شخصية سينمائية، فرغمأن صانعي فيلم "أميستاد"، وهو فيلم أمريكي من إخراج ستيفن سبيلبرغ، أنتجفي العام 1997، يثبتون في مقدمته أن أحداثه مأخوذة "عن قصة واقعية لإحدى أهم قضاياتجارة العبيد في أفريقيا"، إلا أن شخصية جون كوينزي آدامز، الرئيس الأمريكي السادس،التي قام بأدائها الممثل أنتوني هوبكينز، تظل شخصية سينمائية، وفيلم "أميستاد"،كما يعرف الكثير من القراء، يتناول سفينة إسبانية، تحمل الاسم نفسه، كانت تستخدم لنقلمواطنين أفريقيين أحرار مختطفون من افريقيا إلى هافانا في كوبا، ثم إلى أمريكا، لبيعهمهناك على أنهم عبيد، وفي العام 1839 تمكن المُختطفون من تحرير أنفسهم والسيطرة علىالسفينة، وقُتل أربعة أشخاص، وأصبحوا متهمين، وسط نزاع دولي بين أميركا وإسبانيا علىملكية السفينة ومن كان فيها، وجاء دور آدامز، الرئيس الأسبق، الذي يقضى شيخوخته فيمزرعته، معتزلا الحياة العامة، ليقود الدفاع عن الأفارقة الأحرار/ العبيد، وقد حصللهم بالفعل على الحرية.
مزيد من التفاصيل