سباق بين مجنون وجحش صغير

[المستشار الصحفى]

الصحف المصرية والعربية

كلما اتصل بي ابن البلد "أبو صالح"، يفتح لي حديثاً جديداً، مختلفاً عما كنا نحكي عنه في المرة السابقة، ولكنه؛ في هذا الاتصال، بقي معترساً عند سيرة المجانين..

كان يحكي ويضحك، والمرح مسيطر عليه. قال:

- المجنون، حاشاك يا أبو المراديس، يعيش مثل ابن الحمار الصغير الذي نسميه عندنا في البلدة الجحش الصغير، أو "الكرّ"، يمضي الأشهر الأولى من طفولته دون رسن، ومن فرط نشاطه تراه يركض وينط وينزل على قائمتيه الأماميتين، ثم يرفع قائمتيه الخلفيتين، ويرفس بهما الهواء، ولا هَمَّ له في الحياة غير أن يأكل ويشرب ويمرح..

- من حسن حظك، يا أبو صالح، أن المجانين لا يقرأون المقالات والمدونات في الصحف والمواقع الإلكترونية، فلو قرأوا هذا الكلام في مدونة إمتاع ومؤانسة بصحيفة "العربي الجديد"، وعرفوا أنك تشبههم بالجحاش الصغيرة، لزعلوا منك.

- بالعكس، المجنون لا يزعل من أحد، وإذا شبهته بالكر الصغير ممكن أن يشكرك، لأن الكر كائن جميل، مرح، لا يؤذي أحداً. وأنا كنت، ذات مرة، واقفاً عند بيدر الرام، وشاهدت حشداً من الناس، تقدمت منهم، فوجدت المجنون الملقب "شلولح" واقفاً بجوار كر صغير، وواحد من الناس يعد (واحد اثنان ثلاثة)، فينطلق شلولح والكر في سباق 100 متر، والغريب في الأمر أن شلولح فاز، وأخذ من أحدهم خمس ليرات، وهو المبلغ الذي تراهنا عليه، وكان من الطبيعي أن يفوز، لأن الكر لم يتابع الجري، بل خرج من منتصف المسافة وهو يمرح.

- لو فاز الكر هل سيعطونه خمس ليرات؟

- ربما، ولكن شلولح سيأخذ الخمس ليرات في الحالتين، لأن المتراهنين كان همهم الضحك وحسب. المهم أن المجنون، أي مجنون، يزعل منك في حالة واحدة: عندما تزاحمُه على متطلباته الغريزية البسيطة، كأن يكون مستمتعاً بالتهام قرص شعيبيات محشو بالقيمق، مثلاً، وتأتي أنت وتنتشه من يده، وتبدأ بالتهامه أمامه.. فوقتها يزعل، ويحقد، وقد يتحول إلى إنسان مؤذٍ.. ومن فرط حب المجانين للطعام والحلويات تراهم من أبرز رواد المآتم، حيث يوزع الطعام عن أرواح الأموات، وليس أي طعام، فالناس عادة يقدمون في المآتم اللحم بعجين وعش البلبل واللبن العيران، وبعد الطعام توزع الكنافة أو البقلاوة، وأحياناً القطايف على الموجودين..

- معك حق يا أبو صالح، ولكن مهما صرفنا نحن في محافظة إدلب على المأكولات التي تقدم للناس عن روح الميت، لا يمكن أن نصل إلى 25% مما يقدمه أهل حلب. هل تعرف لماذا يزعل الرجل المصري حينما تلد امرأتُه بنتاً؟ لأنه سيضطر أن يوفر مالاً كثيراً لكي يحضّر لها متطلبات عرسها عندما تكبر.

- عفواً أبو المراديس. ما مناسبة الكلام عن هموم الرجل المصري؟

- مناسبته أني أردتُ إخبارك أن أهل حلب الفقراء يخشون أن يموت عندهم أحد، أكثر مما يخشى المصري من بلوغ ابنته سن الزواج، فتكاليف الميت خلال الأيام الثلاثة الأولى لوفاته كبيرة جداً.

- صحيح. وأنا، إذا سمحت لي، سأحكي لك حكاية كلما تذكرتُها أفرط من الضحك.

- يا ترى أنا أعرفها؟

- ولو يا أبو المراديس، هل يعقل أن توجد حكاية مضحكة في تاريخ البلدة وأنت لا تعرفها؟ ما شاء الله عليك. موسوعة. على كل حال سأذكّرك بها: كان مجانين البلدة قد عقدوا فيما بينهم اتفاقاً يشبه المعاهدات الدولية التي تلتزم بها جميع الأطراف، ملخصه أن كل مَن يسمع بوفاة رجل من الأثرياء، أو حتى متوسطي الحال، يسارع إلى إعلام بقية الشباب (المجانين) لكي يذهبوا إلى بيت الميت، ويستفتحوا أول الأمر بالخبز الأبيض مع الحلاوة البيضاء، وبعد الدفن يأتي الطعام الدسم والحلوى، بالإضافة إلى بعض القروش أو الأرباع التي تُرش على الدراويش والمهابيل في المقبرة.

- والله صحيح.

- وبناء على تلك المعاهدة ترى المجانين يتسقطون أخبار الوفيات، ولا يمر يوم إلا ويمرون بالجامع الكبير، وينظرون إلى المقصورة (الآلة الحدباء التي يُحمل عليها الميت إلى المقبرة)، فإذا تأخر حدوثُ وفاة في البلد، يتقدم منها المجنون ويهزها ويسألها: أشو القصة؟ لماذا تقعدين بلا شغل؟ وقديماً كانت السيارات في البلدة قليلة جداً، لذا كان ثمة عتال متخصص بأخذ المقصورة من الجامع إلى بيت الميت الذي يجري تغسيله وتكفينه تمهيداً لنقله، وهذا العتال، ويعرف بلقب "أبو غمزوي"، كان يحب المجانين، ويعطف عليهم، وعندما يُكلف بنقل المقصورة إلى بيت ميت ما، يسارع إلى إبلاغ أول مجنون يصادفه بالخبر، ويقول له:

- يا الله، على السريع، اعمل جولة على رفاقك، وأخبرهم بأن فلاناً مات.

وطبعاً نحن نحكي عن اليوم الأول للوفاة، وأما اليوم الثالث، وهو الأهم والأدسم، فلا يمكن أن يفوته أحد، لأنه من غير المعقول أن تمر 72 ساعة على وفاة رجل في البلد، ولا يعرف به جميع الأهالي، فما بالك بالمجانين الذين يتربصون بهذا النوع من الأخبار؟

- أنت يا أبو صالح تثير دهشتي. ثمة أشياء لا تعرف عنها شيئاً، وأما حكايات المجانين فتصفها كما لو أنك كاتب محترف.

- شكراً لهذا الإطراء. المهم، وصلنا الآن إلى الحكاية، وهي أن المجنون "سكابا"، سمع بوفاة رجل ثري يقال له (أبو عثمان)، فتسلل من توه إلى حيث يجلس صديقه "القالوش"، وجلس بقربه، وأعلمه، همساً بوفاة أبو عثمان، وقال له إن المفروض بنا، إذا كنا ذوي كرامة، أن نخفي هذا الخبر على "سلوما الفزفز".. لذلك دعني أذهب أنا من هنا، وتذهب أنت من هناك، وندعو الشباب إلى بيت أبو عثمان، ونوصيهم أن يكتموا الخبر عن سلوما الفزفز.

دهش القالوش وسأل سكابا عن السبب، فقال له: لأن سلوما الفزفز حقير، قبل شهرين مات كامل آغا في قرية رامحمدان، وذهب وحده، وأكل أكثر مما تأكل بقرتان، وبعدما أكل، أعطوه صرة مملوءة بالطعام، أحضرها، وخبأها عند والدته في الثلاجة، وبقي يأكل منها أسبوعين.. كل هذا وهو لم يدع أياً منا إلى هناك.

قال القالوش: يخرب بيته. وصلت به النذالة إلى هذا الحد؟ والله لن أدعوه إلى وفاة طالما أنا حي!



مزيد من التفاصيل